12 كانون الثاني 2023 12:00ص ورق عتيق (2)

حجم الخط
مرة، خطر لي أن نزلت إلى القبو أريد مذكرات بعض قيادات «الثورة العربية» في مطلع القرن العشرين. يا للهول! رأيت الجرذ ينكب عليها نتشا، كأنه كان ينتقم منها. كانت مجموعة من كتب الوزراء والمستشارين العراقيين والسوريين والأردنيين واللبنانيين، الذين التحقوا بالملك فيصل الأول، ورافقوه إلى بغداد ودمشق والقدس وبيروت. كانوا قد دبّجوها، بما يرضي غرورهم، وبما يرضي ساداتهم ورؤسائهم، وبما يعبّر عن أريحيتهم، وعن أدبهم، وعن معرفتهم بمجريات الأحداث، ويمهّد لهم، لإستلام مناصب عليا، ينتظرونها من ملك الثورة العربية. رأيت الجرذ ينكب عليها. ينصرف لنتش مذكراتهم. كان شرسا في نتشها. بدا كأنه جرذ أخرق، لا يعرف المداهنة، ولا يعرف المساومة، ولا يعرف فنون الرهانات.
كان طعم هذه المذكرات محببا إليه. كان طعمها يسكره، ويجعله ينتشي. رأيته يتذوق الكلمات «المذهّبة»، وجد فيها طعم الذهب، الذي أنفقه الملك، في معاركه الخاسرة. بدا الجرذ يتابع التفاصيل: حكايات ملابس فيصل، حكايات خيوله، حكايات الخانات والفلل التي كان ينزل فيها، حكايات المآدب وألوان الطعام التي تبارى الشاميون والعراقيون والمقدسيون واللبنانيون في تقديمها له. تذوّق «طعم الفيصلية» الطرابلسية، التي خصّه الطرابلسيون بها، إمعانا في التأكيد على الإنتماء العربي للمدينة، نكاية بالطوائف الأخرى، وطمعا بوظائف الخدمة. كان الجرذ يتسلّى بتلك الحكايات، كانت فيها أجواء «ألف ليلة وليلة». كان الجرذ يكثر من التمعن، في اللقاءات التي يعقدها مع الموالين الجدد من الأهالي والزعامات والقيادات، ومن القناصل الأجانب، بعدما صار العثمانيون خارج البلاد، وخارج المعادلة. كان يتتبع بأنفه العفن، رائحة العفونة الطالعة عليه من بين سطور المذكرات.
أحب الجرذ رائحة هذه المذكرات، فأخذ يستل السطور التي تشي بخيانة، والتي تشي بريبة، والتي تشي برشوة، والتي تشي بتدليس الأخبار. كان يلحس بلسانه، بعض الوريقات، التي تتحدث عن المطبخ وعن الذهب وعن البدلات الرسمية، وعن الجزمة العسكرية الملمّعة، وفجأة يتوقف عند وريقة فيها «برقية»، رأيته يسلّح عليها، كما يسلّح الطير، ويستشيط غضبا.
أحس الجرذ بسوء إدارة المفاوضات. وبأن القناصل الأجانب، كانوا يرتبون حكايات مع بلدانهم، ليست من صنف الحكايات التي يتحدثون بها مع هذا الملك الطموح بامبراطورية عربية، على مركبة عسكرية أجنبية. كانوا يخططون لإبعاد فيصل خارج بلدان سوريا، إلى العراق.فجأة توقف الجرذ عن نتش المذكرات. تذكّر أنه قرأ كتابا لكاتب حديث السن، يعيش معه في أقبية الكتب، يتصيّد الكتب القديمة، ينسخها، يحرّفها، يعبّ منها في إضبارة، كان يتأبطها. قفز إلى أحد الرفوف وإستلها. أتى بها، قارنها بالمذكرات التي كان ينتش منها، وجده أنه سبقه إلى النتش منها، فصولا ورسائل. وجد منتحلها، كان قد صاغ منها حكايات. كان هذا الجرذ من هواة فضائح الكتّاب والمتأدبين والمؤرخين والسوسيولوجيين. سمع أحد «النساخ» في الشارع المطل على القبو، يتحدث عن نسخ هذه المذكرات. قال: جاء إليه أحدهم وإستنسخها عنده. قال الجرذ في نفسه: لعله كاتب طموح إلى الشهرة والوظيفة، نسخ المذكرات، وقصقص منها أوراقها، أعاد تضبيرها من جديد، جعل إسمه عليها، كأنها من لحنه. طار بها إلى دور الطباعة، زيّنها، صنع لها جمهورها. وكلما تقدم في رتبة كانت هي مقدمة رتبه كلها.
طاش الجرذ حقا. إستفرغ فوقها. طاشت رائحة العفونة. رأيت أمعاءه تخرج مع لعابه الأصفر. حادث نفسه قليلا: لعل سميات الصغار، لا تقلّ شرا ولا خطرا، ولا رائحة، إذا ما عابثوا السابقين وعبثوا معهم في تزوير المواقف، وفي تزوير الكتابات. مذكرات كلها عفونة، كلها عبث. صغار متأخرون، يلعبون مع كبار تقدموا عليهم في لعبة عمياء. فأخرجت البلاد أحشاءها، من كثرة السموم. 
وحده الجرذ، كان يقدّر درجة «السمّية»، مقدارها، في كل إضبارة ينتشها، في كل كتاب.

أستاذ في الجامعة اللبنانية
أخبار ذات صلة