في آخر الليل، نزلت إلى القبو، أطلب المعلقات السبع. وجدت أن الجرذ سبقني إليها. كان ينتش بقوة معلقة إمرئ القيس. كان ينتش قمصان فاطم وعنيزة وأم عمرو. كان يشم رائحة تلك القمصان بأنفه العفن. وجد في تلك القمصان عفونة فيها رائحة شجر الأراك، رائحة البقل والنفل، رائحة شعر البنات اللواتي كن مع عنيزة في غدير «دارة جلجل» بالقرب من «مؤتة». كان الجرذ مأخوذا بتلك الرائحة. رأيته وقد تنشّط، يقلّب الأوراق، يتذوق أشعارا لها نكهة مختلفة. كنت أراه ينتقل لديوان عنترة، يشم ثغر عبلة، أدهشه السيف الذي لمع كثغرها، يتذوق رائحة العطر في شعرها المسرّح قبل الشفق، لأول مرة يتذوق أحمر الشفاه، يلمس ضوء الشمس على خدها. يشعر أن عنترة إقترب خطوة منه، وضع سيفه على شفتيه، قال له: خذ قبلة منه. علّمه أن عبلة حرم عليه. إنتقل الجرذ إلى دفاتر الصعاليك، وقف على أشعار عروة بن الورد والشنفرى والسليك بن السلكة، يشاركهم السلب، لأن الفقراء جوعى شيوخهم، جوعى سادات العرب، يأخذ حصته من الأوراق إلى الزاوية، يجلس فوقها، يتلذذ بطعم تلك الأشعار التي كان يكرهها شيوخ القبائل. وجد فيها إنتصارا للجوعى. كان يعجب لقول أمير الصعاليك عروة: «أقسم جسمي في جسوم كثيرة». إلتهم وجبة كبيرة من شعر الصعاليك، لأنها لم تجد طريقها، لأنها لم تخرج من القبو، كأنه ينتقم لأصحابها.
جرذ ملهم حب الشعر. تتبع أشعار زهير بن أبي سلمى ولبيد وطرفة، وجدهم معا في نادي المعلقات، يتقابلون بالشعر. كان يصغي بأذنيه الصغيرتين، إلى صوت العقل، إلى الحكمة، إلى الكلمة العاقلة، إلى سيادة الكلمة والعقل، وجد المستشرقين قد سبقوه إلى هناك: مارجليوث، وبلاشير، ودي ساسي، وبروكلمن. وكان طه حسين وعباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وخلفهم أدونيس، يسترقون السمع من المستشرقين، يدوّنون على أكمام معاطفهم وقمصانهم، نبذا من هذه التعليقات الاستشراقية، ليحاضروا بها أمام طلابهم، ويبهروهم، بأنهم جاءوا بما لم يأتِ به غيرهم من العرب، دون أن يذكروا أنهم أتوا بها منهم. كان الجرذ يجفل حين يسمع رطانة المستشرقين، ونحنحة غيرهم، يميز بين الرطانة والنحنحة، يعرف الفروق، من خلال الإنسياب والتلعثم، من خلال درج العلم وظله.
الجرذ الآن، وقد سمع بأذنيه الصغيرتين، ورأى بعينيه، وذاق بفمه، رأيته يمتلئ، سرعان ما يصبح أكثر من حجمه. فيقفز إلى ركن مقابل من القبو، يخبط بيده على أوراق مجموعة، عليها إسم أبي العلاء المعري، يضرب بيده فوقها. تظهر «رسالة الغفران»، يظهر ديوانه: «لزوم ما لا يلزم»، يظهر «معجز أحمد». يأخذ نفسا عميقا، ويجلس يعدّ العدّة، لمناقشته في كل كلمة قالها. يجد أن بصيرته سبقت بصره، لرؤية القطعان، وهي في مراعيها. قال الجرذ في نفسه: لا شأن للبصر في المعرفة. وإنما الشأن شأن البصيرة.
جرذ نهم مثلي إلى الكتب. شأنه شأن أصحاب المطابع، يهتم بـ«الترويسة»، أكثر مما يهتم بالكعب. تراه معجبا بترويسة ألف ليلة وليلة، بترويسة كتاب الأغاني، بترويسة الأصمعيات والمفضليات وجمهرة أشعار العرب. كان يمسك بالأوراق من ترويستها، يجرّها إلى حجره. هناك يبدأ نتشها واحدة واحدة، كأنه يعرق أمشاج أصابع طرية. كان الجرذ، مغرما بتعريق الكتب، ينشر مفاصل الفصول، ويترك على أرض القبو، بعضا من روث الثقافة، كأنه يعري الثقافة عما لحق بها من الروث، وهي في طريقها إلى المراعي، من شارح مغفل، إلى شارح غافل.
أستاذ في الجامعة اللبنانية