يسعدني أن ألبّي دعوة الزميل العزيز، الشاعر المجيد، الدكتور محمّد حبلص لمشاركته في هذه «الأصبوحة الشعريّة» التي سيتحفنا خلالها بأربعِ قصائدَ، تتشكّل في أربع لوحات، في كلّ لوحةٍ ألف لونٍ وألف صورة وألف معنى... نسجها قلم «حبلص» بمداد قلبه، في مرحلة «النضج الشعري» إن صحّ التّعبير، وأطلقت عليها « قصائد العشرينات»، فكلّ منها عشرون بيتاً... ولكلٍّ منها طعم خاص ومذاق مختلف...
ما يلفتنا في اللوحة الأولى: «أنا العاشق» هو ذاك العشق الروحيّ الساميّ الذي يجعل من المحبوبين روحاً واحدة فـ«روحه روحي وروحي روحه»، وتبلغُ ذروتُه حدَّ التمازج اتّحاداً وانسجاماً، فالحبّ «الحبلصيّ» الصافي هو حبٌ أبديّ عذريٌ بامتياز، «هو يبقى بعد أن تبلى العظام»...
أمّا اللوحات الثلاث: «أنا البلبل»، «أنا الريح»، «أنا الواثب»، فمحورها «الأنا الحبلصيّة»، ومن كلّ منها يُشرق ملمحٌ من ملامحه...
ففي الأولى تجلّى الشاعر بلبلاً صدّاحاً ببلاغته، محلّقاً بفصاحته، حوله هالةٌ ناصعة البياض، «لا يغفل عنها إلّا كلُّ عمٍ»... هو بلبل ليس ككلّ البلابل، هو رسولٌ ومعلّمٌ يسعى لنشر الوعي وبثّ العزيمة في العرب، لجمع شملهم، لصدع رأبهم، لنهضتهم، لبناء صرح سؤددهم... إلّا أنّه خاب ظنّه، فكأنّه «يوقظ الموتى من العدم»، وكأنّه «يبثّ العزم في الرِمَمِ»، فها هم العرب «قد تفرّقوا شيعاً»، وها هي «سلطةُ البجمِ قد سادت»، فضاعت الأماني، وانقطع الأمل، و«أُخمدت بعد عصفٍ ثورةُ القلم»...
وفي اللوحة الثانية، يتعالى الشاعر «ريحاً»، ويشمَخ، يزأر ويزبد، كموج بحرٍ عاتٍ، يصدّ الأعداء، ويُفرح الأحبّاء... يتسامى بمجده وعزّة نفسه، زاهداً بأمجاد الورى، «فلو مدّ له كسرى يده لتمليكه لتعفّف وترفّع»، حسبه «الكلمة» الَتي تتردّد على كلّ لِسْنٍ، وحسبه «قصائده المدوّيةُ في الأنام يغشاهم الصدى»، يجتاز المسالك، يثير بقاع الأرض بحرًا وبرًّا، ويُلقِح الحبّ والغرس في الجنان وفي الترب، ويعصف بالحُبّ المكتوم… فهو لا يحيا إلّا بالحبّ...
أمّا في الثالثة فالشاعر «الواثب» أبداً يأبى أن تطأ قدماه الأرض، هو دائماً محلِّقٌ كالنَّسر «من فوق السحابِ ملاعبُه»، شجاع القصيدة، فجيش قريضه «ليس يُغلَبُ سيفُهُ»، قويٌّ الشكيمةِ، شديد العزيمةِ، «إن شاء مأرِباً من المآربِ وإن كان ممنوعاً فعزمُهُ غاصبُه، يصارعُ الدهرَ فيغالِبُه»، وإن داهمه خطرٌ فإنّه «ملاقيه شجاعاً وراكبُهْ»، وإن خانه الأنام فإنّه «يريه ابتساماتِه وليس يعاتبُهْ»، وإن رام مقعداً بلغه ولو «كان فوق النجم فهو كاسبُهْ».. هوذا الواثب، إن شاء «عانق الذُرى وتُلبّى رغائبُهْ»...
«محمّد حبلص» في لوحاته الأربع قد عاد بنا إلى زمن فحول الشعراء، وفرسان البيان المتصرّفين في فنون القول، المخترعين دقائق المعاني؛ هو كالقاضي العدل، يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقّه بعد طول نظرٍ وبحثٍ عن البيّنة، هو كالفارس المغوار يأخذ ما حوله قهراً وعَنوةً، مقدامٌ جريءٌ ينقضّ على ما يريده، لا يبالي بما يلقى ولا يأبه أينما حلّ... هو شاعرٌ متأخرٌ/ محدث، جاء في زمانٍ يُعقم الخواطر ويُصدئ الأذهان، فلم يزل فيه وحده بلا مُضاهٍ يُساميه، ولا نظيرٍ يُعاليه...
«محمّد حبلص» الشاعر يَسقي قلمه من قلبٍ طامحٍ جامح، وعاطفةٍ هيّاجة جيّاشة، لا يستريح حتّى يأتيَ على آخر قافيةٍ من قصيدته، ينظر إلى ما سال من بين شفرتي قلمه كما تنظر الأمّ إلى طفلها الذي سقط من بين أحشائها، قصيدتُه فِلذة من ذاته، وجُزء من كِيانه، وصورة صادقةٌ لملامح شخصيته... لم يزل «محمّد حبلص» شاعراً «عذريًّا في عشقه»، «بلبلاً صدّاحاً في قومه»، «ريحاً عاتيةً في وجه خصومه»، «واثباً بل وثّابٌ في بلوغ المجد من مآربه»...
هوذا «الشاعر الشاعر» الدكتور محمّد حبلص... دمت شاعراً ألقاً، ودام فيض شعرك، على أمل لقاءٍ وقد تغيّرت فيه هذه الظروف العصيبة المحدقة بنا وبوطننا وبجامعتنا.
د. روعة ناجي