فجأةً أنتبه إلى أن كثيراً من وقتي قد أمضيته سيراً في نفق مظلم حفرته بنفسي لنفسي. فأمام كل محطة كنت أقفُ عندها يأخذني كان دخان السفر الكثيف ويفوتني القطار. المساحات التي كانت تتغمّدني مراراً بأنوار لم أقدحْها ممّا عندي سرعان ما كنت أغادرها بحثاً عن نفق جديد أو حفرة أخرى تنزل بي الى دركٍ من العقل وسافلٍ من الروح.
ولم أكن في كل ذلك على بيانٍ مما أنا مُحدثه فييّ من أثلام مظلمة تجعل طريقي نحو خلاصٍ كنت أنشده بحق ولا أزال على غير رشاد من القلب، أشد وعورة عليّ وأبعد منالاً. وكان العقلُ منّي بمنزلة الهدى الذي استيقنت به من قبل أن يستيقنني والذي به آمنت من قبل أن يستأمنني.
فإذا بي اليوم على حالِ مَنْ رأى في العقل المُحال الذي يتلبّس هيئة الإمكان الصرف وقد ساور خيالات الإرادات ومفاتن الشهوات، ويقذف بصاحبه إلى زخرف القول ومراجع الصدًى.
وكلما استغار النفق وأطبقت جدرانه على نوافذ القلب وقرقع الظلام بين جنباته، ضحك العقل من المستجير به وأزلّ قدمه من على حرفٍ كان السقوطُ نحوَه الأبكم وفقهه الأعمى.
فجأة أسترشد بعصىً كانت من نافل ما أحمل في سيري. فإذا بي أضرب بها حجارةً استقرّت في القلب عن غفلة، وأفرّق بها كومة من كبرياء تعفّن في السريرة عن جهل. ليس النور ما نجده في آخر النفق الذي ننحبس فيه طويلاً ولا نتنفّس فيه سوى هواء غرورنا البشريّ، بل النور ما ننغمس فيه بكليّتنا من دون مفارقة، وما ينقذف منه في قلوبنا فيشفّ مثله ويصفى، كأنه نور يلامس نوراً.