تارةً أحبُّ الأشياءَ، وتارةً أكرهُها. لا أعرفُ ماذا أسمّي هذه الحالة. تقلّبُ مشاعر، تناقضٌ عاطفيّ، قبْضٌ وبسْطٌ، انشراحٌ وامتعاضٌ، أم بلاهةٌ في الاحساس؟ قد لا تأتي الأشياءُ. فقط تحضرُ وساوسُها في الرأس. وبعيداً عنكَ وعنها، تنبجسُ علاقةٌ بتلك الوساوس المريبة. هناك تحبُّ وتكرهُ من دون دوْزنة. وهناك تتعلّقُ بأمصالٍ أو تنفصلُ عن أوهام. تصيرُ ثقيلاً حيناً كحجرٍ أعمى أو خفيفاً أحياناً كريشة حالمة. تلتقطُ كتاباً في الشّعر ليعبرَ النّهرُ بابَ غرفتك، وينتشرَ على الرفوف اليابسة، وبين الزوايا المفترسة. تقرأُ أبياتاً قليلةً، وتختنقُ من الصوّر المجّانيّة، تتزاحمُ على مخيّلتك مثل ذبابٍ فوق جُثّة. تكرهُ مجانيّةَ الشّعر. ترمي الكتابَ في البئر، وتقولُ: أكَلَهُ الذئب. تفضّلُ الرواية؛ تتمادى مع سجيّتك في ضبْطِ التفاصيل على إيقاع الملهاةِ الكبرى. تشدُّك صفحاتٌ عدّة في الكتاب المطرّز بالمفاجآت الإنسانيّة، النبيلة والخسية، لكنّك سرعان ما تيأس مثل بغلٍ عند المساء. المفاجئُ لا يفجَؤك. والسّردُ عشبٌ زلقٌ يوقعك في الملل الشديد. تغادرُ الروايةَ وتتركُها لشخصٍ آخر أكثر شباباً منك. سأستمعُ إلى الموسيقا وأرمي فيها حُزني، لعلَّهُ يجري في دمائها الصّاخبة، فيشاركني به أحدٌ على الطرف الثّاني من العالم المتحضِّر. فحزني ليس من العالم النّامي. يُغلقُ بابَ الموسيقا، ويفتحُ نافذةَ الحُلم على نومِ الحمام. في الصّباح يغسلُ الألحانَ ويُنشّفها على حبلِ صوته الأجشّ. شجارٌ مع الصّدى يوقعُ البغضاءَ في قلبه. تباً للموسيقا! وتباً لأذنٍ تعاشرُ الثقوبَ ولا تستشعرُ أورامَ الهواء. يُشعلُ التلفاز. يُطفئ التلفاز. الإعلانات دينٌ جديد، وأنبياءٌ دجّالون لا يختمهُم تاريخٌ أو واقعة. يقفُ على الشرفة قليلاً. يحدّقُ في شجرةٍ هناك، من قبل أن يولَد. ماذا تفعلينَ بكلِّ هذا الوقت؟ الانتظار الطويل! الوقوفُ بلا أملٍ بهُدْنة! لا أحتملُ أن أكونَ شجرة. مؤلمٌ كلُّ هذا السّكوتِ على الواقع. ربما أفضّلُ أن أكونَ عصفوراً مربوطاً بخيطٍ قصير جداً. سأتدحرجُ على رصاصة، وأقلُبُ على ظهري أو بطني. سأغنّي من دون أن يكونَ في نيّتي أن أُطربَ أحدا. ربما أغنّي للحياةِ كي أُعلن على الملأ استخفافي بها. وربما أُغنّي للموتِ كي يأتيَ سريعاً كومضة. لكنّ العصافيرَ لا تقاوم. وأنا أحبُّ القتالَ على المنحدرات. وحدها الأشياءُ الصادقةُ تنحدر، تنزلق من أعلى إلى أسفل. مثل دمعةٍ عند الفراقِ الصّعب أو اللقاء المستحيل، مثل المطر فوق قرميدِ القلب، ومثل الحياةِ على دَرَج الغياب. ولا أنسى أيضاً الأفكار، تنزلُ من المخيّلةِ إلى اليد الدّبقة. لكننّي لا أعرف لماذا أجدُ نمَشاً دائماً فوق أفكاري، مع أنّي لا أعرّضُها للشّمس إلا قليلا. فأنا أميلُ للّيل أكثر. لاتّساع خياله، ولنعومة بشَرَته. وأفكاري ليليّةٌ، وجارةُ القمر. والليلُ خزّان التأمّل الحديديّ. فيه تخلعُ السماءُ خمارَ الضوء، وتُبدي للسّاهرين زينتَها الكونيّة. عريٌ متوهّج. أفئدةٌ تصعدُ كالكواكب السيّارة، وقرائحٌ تهبِطُ كصّحونٍ طائرة. يجلسُ الليلُ فوق كنبَتي العتيقة. يُحدّثُني بلغةِ الإشارات. أفهمُ بعضَها. الليلُ أبكَم. وأنا مثلُه أصيرُ أبكم. أُعجِمُ عن لغتي البرّانيّة، لغةُ جلدي، ولغةُ مظهري، ولغةُ أسمائي وألقابي، ولغةُ دمي. وأصيخُ إلى لغتي الجوّانيّة، لغةُ نفسي، ولغةُ روحي، ولغةُ كياني. إشاراتٌ مبهمة وإلهاماتٌ غامضة، لكنْ تكفي لإضاءة قنديلٍ وسَطَ العتمة. أحملُ قنديلي وأتمشى وحدي كخيطٍ أسود. أُسلِّمُ على نجوم مرصوفةٍ كأحجار القَدَر، وأخرى مبعثرةٌ كالضّجر. أشمُّ الظلامَ الدّامس على الشّجر، ولا أتّكئ على برْقِ البصَر. قنديلي زعفرانٌ أطردُ به الخيبةَ، وأوقفُ الهزيمةَ على العتبة. دائماً ما نحتَمي بالجدارن، نحن الكائناتِ غير المحصَّنة بالدروع والأنياب، وبالقرون الحاسمة. فالتاريخُ لا يزالُ رخواً، لدِناً، مائعاً، دبقاً، طريّاً، أملدَ، وهشاً بأكثر مما يحتملُ الأموات. وأنا أكرهُ الجدران، لكنّي لا أرتاحُ في العَراء. ومع ذلك أتوقُ إلى الصحراء. وأذكرُ أنني ناديتُ فيها ليلاً على أبطالٍ غابرينَ من فوق ذاكرةِ جَمَل، لا أعرفُ إن سارَ بي في الرمال الناعمة أم سرْتُ به في التّاريخ الخَشِن؟ ناديتُ كثيراً ولم يُجبْني أحد. هل كان الضّجرُ يملأ أفواهَهم؟ أم كانت الحقيقةُ تربطُ ألسنتَهُم بجذْعِ الرّخام المقبَّب؟ لكنّي رأيتُ التاريخَ يتمشّى فوق الكثبان. يصعَدُ ويهبِطُ من بعيدٍ، كأنفاسِ سفينة، وعلى رأسه تاجُ السّراب المذهَّب. كنتُ أريدُ أنْ أسألهُ عن أنبياء مرّواْ من هنا، وعن وصايا لفّقتْها الريحُ وهي تشدُّ ظهرَ الوقيعة بين الخيام. تاريخٌ بلا جدران. تاريخٌ في العراء، وتاريخٌ للعراء. لماذا دخلَ التاريخُ إلى قاعات الاجتماعات، وغرف التدريس، وأروقة الحُكُم؟ لماذا صار تاريخاً بين الجدران، تاريخاً للجدران؟ لماذا سلَّم نفسَه إلى سَدَنة الكتابة وإلى حرّاس الروايات؟ ضاعَ التاريخُ في الكتُب المجلّدة، ضاعَ في العَنعَنات، وضاعَ حتىّ في المحاولات الصّادقة. ربما بقيَ الصّدقُ وحيداً، لم يجدْ أحداً يُصدّقه أو ينتمي إليه. وجلسَ التاريخُ خلف الطاولات الفاخرة، وبَحْلَق في المرآة طويلاً. صفّف مفْرِقَهُ مرّات ومرّات، قبل أن يلتقيَ بالأصدقاء أو يخطِبَ بالجماهير. وأنا لا أصدّقُ مثلَ هذا التاريخ المنعَّم والمزيّن والموضّب للحفلات، تاريخاً يمشي على السجّاد الأحمر ويضعُ الكولونيا!