بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

21 تشرين الأول 2022 12:00ص جرْحُ البَجَع

حجم الخط
وكنتُ أنسى أنّي أنسى، كجداريةٍ نسيَتْ في لجّة اللونِ الجدار. وأسقطُ إلى بئر نفسي على وجهٍ لا أعرفهُ، وعلى ماءٍ لم يغتسِلْ به حمَامُ يديَّ.  وكانت الظلالُ تفرِّقُ عظامي شجراً على غاباتِ العزلة، وأسمعُ في أنفاسي خريرَ الرُخامِ المُتعَبْ. وكنتِ تجوسينَ قلبي كحارسٍ لليلِ الكولونيا الأخضر، يودِّعُ ملكتَهُ بدفوفِ المسْكِ الحزين. وكان الوجودُ أطولَ من أسئلتنا. وكانت الحربُ أقصرَ من سيوفنا. والمؤقّتُ بيننا كان يمنحُنا هباءَه الفضيَّ قمراً يُماجِنُ حقولَ التّين اللولبيّة. قلتُ لكِ أجسادُنا نوافذَ لاشتعال الذَهَب المصفّى من الخلودِ، والغمامُ أكوازٌ من جوْز الهند تُعطِّرُ صراخَنا الوحشيّ بيقظةِ الأدغال. وأذكرُ أنّ المطرَ كان حصَّتنا من الفرَح الشتويّ. وكانت الطريقُ إلينا تدغدغُ أقدامَنا بالغَرقِ الكُحْليّ. والرصيفُ كان يلهو مع الريح، وينسىَ وجوهَنا في مرايا القطار. وتماديْنا في صَقْلِ غدِنا، واختَنقْا في الانتظار. وكنتِ تسألين كثيراً عن الحبِّ، وتفتحينَ أدراجَ القصيدةِ على الصّدى. وكنتُ أراكِ حائرةً كذبابةٍ فوقَ صحنِ الليل، تلتحفينَ الموجَ الأسودَ حيناً، وحيناً تقفينَ عاريةً من البحر. وكان شعرُك تارةً يُغنّي للندى، وتارةً يبكي للحجر. وأخذْتُكِ إليَّ بين جناحِ النخيل وقلبي، جُرحاً صافياً في البلّور، يوّضحُ ألوانَ دمي بين دروب الشجر. وكان النهرُ يوجعُنا. والصفصافُ الآدميُّ يشربُ حُزنَنا العالي على خَفَرْ. ونهضنَا كيمَامتيْن من عُنُقِ المئذنة، وسألنَا عن السماء. وكانت السماءُ حولنا؛ وكنا خفيفيْن كريشِ أجوبتِنا الفلسفيّة. وكانت السماءُ وراءنا؛ وكنا حُرّيْن كشاهديْن أخيريْنِ على مجزرة. وكانت السماءُ أمامنا؛ وكنا بعيديْن كدعاءٍ تأخّرَ على مقبرة. وتسألينَني عن الوقتِ: هل مرَّ بيننا ما يكفي من شوكٍ ووردِ؟ وهل كبُر في بحيرة أغنيتنا جرُح البَجَع؟ قلتُ لكِ: هل يسمحُ لنا الوقتُ بعدُ بأن نمتحنَ الترابَ بفضّةِ يديْنا؟ وأن نتردّدَ بين القبيلةِ والحقيقةِ، فنقولَ ما نؤذي به الريح عند هبوبها، ونجرحَ وضوحها الخريفيّ فينا. وغداً حين يأوي القمرُ إلى خيمَته، ويخرج البحرُ إلى الصحراء حافياً، سيصير الوقتُ في حديقتنا أقصرَ من أمنيةٍ، وأطولَ من ظلٍّ لا يُرى. وأذكرُ أننا أعَرْنا النومَ يقظةَ أسئلتنا. تحدّثنا طويلاً عنّا، عن قُبَّراتٍ أفلتَ غناؤها منا، وعن أمواجٍ غمرتنْا وانكسرتْ عند أول امتحانٍ لنا على الطيران. وكان الليلُ صديقَ أسئلتِنا الوفيّ. ألا زلنا أصدقاءَ أيّها الليلُ؟ الشبّاكُ نامَ على نعْنَاع همْسِنا. والبابُ نامَ على عكّازه الخشبيّ. والجدرانُ واقفةً نامتْ على بياضِ مخيّلَتها. والمجهولُ بيننا نامَ على ماضٍ مؤجَّل. والقمرُ على سياج سريرنا نامَ. وأحلامنُا سبقتْ عُشْبنَا إلى النوم. والشِّعرُ كدوائرَ من دخانٍ بين الحصى والماءِ نام. والجبلُ نام. هل من شيء لم ينمْ بعد؟ سألَتِ السماءُ واستلقتْ خفيفةً فوق أوجاعنا.
أخبار ذات صلة