بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

27 حزيران 2019 12:05ص خرسا!

حجم الخط
عمرها قد يكون تجاوز الكفة الواحدة.. لكنّه حتماً ما زال يرتع في حنايا الكف الأخرى.. وثوبها أبيض كطهر العذراء في خدرها.. عيناها تنطقان بألف كلمة وكلمة.. شعرها أسود كأيام وليالي عمرها المسروق..

تتجوّل بيّن السيّارات وسلاسل «الغاردينيا» تتأرجح بين راحتيها.. لا تنطق ولا بكلمة.. بل تلوّح بسلاسل الغاردينيا البيضاء.. علَّ العابرون لأسرار الحياة.. يفكّون إحدى شيفرات قدرها.. الملوّث بعفارة الطرقات وحرارة الإسفلت.. وضجيج طفولتها الهاربة من أعماق الحياة..

أوشكت أنْ تبيع كل الكمية التي حمّلها إياها.. أحدهم لتسرح في أحد شوارع العاصمة.. وما أنْ صاحت إشارة المرور الضوئية.. مُعلنة حُرمة المرور عبر نور أحمر.. يخبئ خلفه آلاف القصص المعتوهة.. في زمن ضاعت فيه النخوة والمروءة وحتى الإنسانية.. حتى سنحت لها الفرصة أنْ تقفز أمام نافذة أقرب سيارة إليها.. ملوّحة بآخر سلسلتين من الغاردينيا..

فتح «صاحبنا» نافذة سيّارته.. فإذ بوهج الحر اللاهب ينقض عليه.. لكنّه آثر أنْ يسألها: من أين أنتِ؟ وما اسمكِ؟.. لكن لسان حالها نطق بالهلع.. لتفر على عجل عيناها قبل قدميها ناحية سيّارة أخرى.. فناداها طالباً منها العودة.. معلناً عن أنّه سيشتري السلسلتين.. شريطة أن تقول له اسمها..

فإليه عادت أدراجها.. وهي على صمته لا تزال.. لكن عينيها تتحدثان بكلمات أعمق من جوف الأقدار.. فحاول أن يفهم ولو لغزاً واحداً.. لكنه عجز عن اللحاق بالخوف الكامن في الأخضر المتراقص على جوانب العسلي المزنّرة به مقلتيها..

وفيما هي مُصرّة على التزام الصمت.. رغم أنّ الصفقة تمّت بينهما.. صرخت بهما إشارة المرور.. «أخضر.. إرحل».. فقال: «ما رح تقوليلي إسمك؟!».. ليسمع صوتاً طفولياً آخر.. آتٍ من حيث اللامكان قائلاً: «خرسا يا عمو.. ما بتحكي ولا كلمة».. 

ومرغماً لا بطلاً.. انطلق بسيارته لأنّ الأبواق المنتظرة ما عادت لتصبر.. في حين تسمّرت عيناه على المرآة ليتابعها.. مردّداً وابتسامتها لا تبارح وجهه: «خرسا»..


أخبار ذات صلة