من هو رجل الدولة؟ أين نعثر عليه؟ وهل نحن فعلاً بأمسّ الحاجة إليه اليوم؟ الإجابات الحقوقية أو السياسية أو حتى الفلسفية ليست هي ما نعوّل عليه هنا. فلسنا في معرض إزاحة الأسئلة المصيرية عن كاهلنا باللجوء إلى عصا الكتب السحرية. مشاكلنا ليست مع الحبر! ربما إلتفاتة صغيرة إلى زاوية أخرى مُعتمة، كفيلة بأن تنير لنا درباً جانبيّاً للحقيقة. فحين توصد أبوابها الرئيسية بأقفال الفتن السوداء، يصير الدخول إليها ممكناً فقط عبر الممرّات الأكثر فرعية. تحمّل الضّيق يصبح الفضيلة الأسمى عندئذ؛ أي المكوث الطويل في الهامش والاستعداد المتجدّد لمواجهة صراخ المتن بكل بلاغاته ومجازاته. وعلى العكس تماماً، شيء من البساطة يُعلّمنا إياه الدم رغم قساوته. أن نرى الحقيقة ضالةً أبداً مهما فتحنا لها منازلنا وشرّعنا لها صفحاتنا. ففي المكان الآخر تقف الحقيقة. فهل من عابرين إليها؟
حين أتأمّل في الفرْق بين الأعمار تستوقفني علامة استفهام جادّة: هل الطبقة السياسية الحالية بشيوخها وشبابها خبرت «الدولة» من قبل؟ لقد أحرق بعضهم شبابَه بنيران الحرب الأهلية بينما ترعرع البعض الآخر في لهيبها. أما الآخرون فقد سمعوا عنها فقط. أتوقّع إذن كلّ شيء: قادةً وأبطالاً، مفكّرين وفنّانين، علماءَ واقتصاديين. لكن وسط هؤلاء جميعاً أفتقد رجل الدولة. إنّها مسألة تربوية وثقافية بإمتياز. الخطأ يقع في دفتر للحسابات لم يعد موجوداً في أدراجنا. فاقد الشيء لا يعطيه. قول مأثور ما يزال يأسرنا حتى العظم. ليس في الجواب أي عقدة: رجل الدولة هو من يبني مؤسساتها الواحدة تلو الأخرى وليس من يعتاش منها أو عليها، وليس هو من يهدمها روحاً ويبقي عليها جسداً. رجل الدولة هو من يُسيّجها برهبة القانون ويقوّم إعوجاج الشارع فيها بالعدل. رجل الدولة هو من يجعل منها أكبر الأشياء قاطبة ويعرف جيداً كيف يتوارى عن أنظارها في الوقت المناسب. رجل الدولة هو دائما النكرة الأكثر تعريفاً في نحو العظماء.