افتقد كثيراً الى عبارات الحمدلله، إن شاء الله، وأمثالهما في حديثي اليوم. فهي تُشكل نسيج كلامنا الظاهر والباطن. ليس من باب الألفاظ التي تلهج بها ألسنتنا بلا قصد، بل من باب الإيمان الواسع بأن ما من شيء نقوله أو نفعله أو نتمنّاه إلا ويسبَح في قدَر الله وقضائه كما يسبَح واحدنا في يمٍّ عظيم من غير أن يحيط بشيء من أبعاده. فالحمدلله هي منتهى كلامنا سواء في السراء أم في الضراء. نوقّي بها أنفسنا من أن تركن إلى ذاتها، فتنظر إلى العالم نظرة كبْر ٍأو تخلٍ؛ كأننا في الأولى أسياد هذا العالم الذي عليه أن يمتثل لإرادتنا، وفي الثانية مجرّد كائنات أوجدتها الصدفة العمياء ثم قلَتْها إلى عالم بلا رحمة. الحمدلله هي العبارة - البوصلة التي تُرشدنا دائما إلى الطريق الحقّ إن نسينا أو ضللنا. وتمسُكّنا بها في يوميّاتنا أرسخ من الجبال. فإن سكت عنها لسانك أحيانا وسط أناس لا يفقهونها لفظا ولا معنى بل يستعجمونها بحكم المولد والنشأة، فإنّ قلبك لا يني يُردّدها بلا توقّف. إنّ سؤالا عن حالك في الصباح لا تغلّفه الحمدلله هو جواب أبتر. بل جواب نُكُر. كيف لا وهو يحيل إلى نكرات يريد أن يستجدي منها معلوما. كأن بالظلّ يُستدل على الرجل. فأي معلوم هذا الذي لا يعي أنّه بالمجهول الذي ولج فيه إنما سُمّي معلوما؟ «سافا؟» يسألني الفرنسي «وي سافا بيان» أجيبه بصعوبة. كأن الكلمات تخرج من فمي بحبل يظلّ مشدودا بقوة إلى الداخل. هل نلتقي مساءً؟ يسألني مُدحرجا حرف الراء ومُحْدِثا غنّة خفيفة في حلقه. أكتفي بنعم تائهة. كأني ولد أضاع أمّه وسط الزحام، فوجدها في المنزل تنتظره. هكذا «إن شاء الله» هي في المنزل منّا، بل هي المنزل، والمنزل هو الأم. فلو فقدت العبارة لسبب أو لآخر أو خرجت من دونها يوما فسأضيّع على نفسي الرحلة التي أقطعها في الأبجدية. لكن الأم تنادي أطفالها دائما ولو همسًا.فهي الصوت الذي لا يقطعه فأس الغياب. أحادث الفرنسيين من حولي. أكبتُ لغتي وأصطنع اعوجاجا في لساني المُبين لأمدّ جسراً في الهواء البارد إليهم. أردّ التحية بمثلها فحسب. أشرفُ على القول من دون أن أنزل فيه. أتكلم الفرنسية وأرطن فيها قليلا كأنها قشرة جلدية على وشك السقوط من حرارة العربية المتأججة في دمي. أحدّق في وجوههم وهم يعجنون كلامهم بنكهات مختلفة مثل نكهات خبزهم وأقول في سريرتي: أيها اليتامى! هل صدقتم أن الحال يمشي هكذا من عند نفسه؟ وأن الأماني تملك قوة من ذاتها؟ هل أخذكم سارتر بجريرته الوجودية وكامو بعبثه المسرحي؟ صحيح أنكم اليوم أكثر قوة منا نحن العرب وأفضل تخطيطا وأحسن تنفيذا. لكن قولوا لي بماذا تقيسون زمانكم؟ انتبهوا جيدا: عربيّتنا تضجّ بزمن المستقبل. وجميع أفعالنا لا تحيل على نكرة مثلما هو حال لغتكم. بل على معلوم بالفطرة والعقل والوجدان. وعلى غائب كامل الحضور، وحاضر تام الغياب. حقا لقد أفلتت الأشياء من زمام عربيتنا واستطالت غربتنا دهرا. وحقا أن أمانينا باتت سقوفا بالية وأوطاننا عروشا خاوية وخطاباتنا تذريّا بلا محصول. لكننا لا نزال نتكلّم بما لا تحتسبون!