بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

31 كانون الأول 2021 12:00ص غداً يسامحني قارئي!

حجم الخط
يحملنا العمر في كل مرة إلى عتبات لا ندري أهي حقاً عتبات أم لا؟ نَعُدّ بالسنوات أعمارنا؛ ويا له من رقم ضئيل في هذا الكون! ينقضي فينا عام بكل جوارحه، وعند العتبة يغادرنا ورقةً ذابلةً تسقط من نفسها عند أول طلوع لفجر جديد. أتراه هو الذي يجتازنا في ابتعاده المريب أم نحن الذين نجتازه في بقائنا المنقطع؟ بعضنا يفرح بأنه لا يزال حياً وبعضنا الآخر يحزن لأن ما فاته سيفوته حقاً بلا رجعة. منّا من يفكّر مع الذي يرحل كيف يرحل؟ ومنّا من يفكّر ضدّه لماذا يرحل؟ لكننا جميعاً نملك في السطر الأخير للرحيل شيئاً لنقوله ولو بصمت قارس أحياناً. وكما هي العادة مع كل نهاية؛ فثمّة بداية أخرى، ومع كل انقضاء فثمّة ولادة ثانية، ومع كل وداع فثمّة أمل بلقاء يتجدّد باستمرار.

روزنامة الأسئلة الحقيقية تهدر في داخلي كشلال من ماء ينافح صحراء ضالة. وأشعر في هذا الصعود نحو أجوبة بعيدة عن كل التواريخ المكتوبة، بأني جبل يطرد عنه ذاكرة الوديان، وبأني مثل الموسيقى محو لشقاء الحرف فوق مذبح اللسان: متى بنفسك التقيت آخر مرة؟ يخاطبني صوتٌ لا قريب ولا بعيد، لا ناعم ولا خشن، لا واضح ولا غامض، لا عربي ولا أعجمي. وعند أيٍّ من العتبات انتظرت قدومها إليك؟ يسألني الصوت الذي يضيء صداه حفراً قاتمة في طريقي الباردة. يتابع بلا توقّف: هل أتتك طائعة أم فاتك منها مواعيد كثيرة بعنوان واحد؟ ينهمر الحبر من أصابعي كشتاء ليلكيّ فوق أرصفة بيضاء قاحلة، ولكن الكلمات التي تتشكل سريعاً كفقاعات من الهواء المضغوط، تسحبها الريح إلى خيمتها الواسعة أو تجرفها السيول المندفعة إلى مجاري النفس الضيقة؛ حيث تتكدّس أوراق الخريف كأسرار صفراء لم يعد لها من قيمة عند أحد!

غداً.. يحملني العمر ثانية ويغرسني في احتمالات جديدة. وغداً.. يُمرجحني الحزن كطفل يبكي لكي ينام. وغداً.. يرجع ظلّي إليّ متعباً من بريق المرايا. وغداً.. حديقةٌ تلملم أشجارها على أعتاب روحي اليابسة وتترك لي مقعداً خشبياً في الفراغ الأخضر. وغداً.. تتركني كتبي وشأني بلا أي عنوان. وغداً.. أصير بريئاً مثل أقحوانة في الشمس إلا من خطاياي. وغداً..يُضيّعني الفرح ثانية في الحدائق العامة وعلى ضفاف الأنهار. وغداً.. تخيطني كنزة العمر بإبرة تجرح الدفء في قلبي. وغداً.. أبحث عن كوخ يسع الغابة التي لوّنتها في دفاتري الصغيرة. وغداً.. أحدّث عنّي وحدتي وأسقي الزهور على شرفة أدارت ظهرها للغيم. وغداً.. أحبّ النجوم البعيدة وأطارد الأكثر خجلاً من بينها . وغداً.. أشعل أقلامي بخوراً يطرد عن ليلي كوابيس الأفكار. وغداً.. مثل أي يوم كتبت فيه، يسامحني قارئي على ارتكابي كل هذا البياض.


أخبار ذات صلة