أمّا وقد صار الحديثُ عن الكرامة واجباً، أجدُني مضطراً إلى التطرّق إليه بعضَ تطرّقٍ لطيف، لست أقصدُ منه الإساءة إلى أحد أو الردّ على كلام أحد. إذْ ما خطر ببالي حين رنّتْ هذه الكلمة العزيزة في أذني، هو أن أخرجَ بها من حقل السياسة المُلغّم بالمصالح والمآرب إلى حياة الناس الفعليّة.
وأراني أسألُ بالفم الملآن: هل بقي لنا نحن اللبنانيين شيئاً من الكرامة بعد؟ لن أسرُدَ هنا آلاف الوقائع التي تُجيب عن هذا السؤال المرير بالنّفي. فهي أوضح من أيّ كلام عنها. ما يعنيني في نفسي شيء آخر. ربما هو التأكيد على أنّ الكرامة لا تُنتزع من العدوّ أو الخصم فقط، بل من الأخ القريب والصديق الحليف أيضاً، وإنْ اختلفَتْ الطريقةُ وتباينَتْ الوسيلة. فهي مثل الحريّة، كلٌّ واحدٌ لا يتجزّأ. وأولى كرامات الناس على ما أظنّ هي معرفتُهم الحقيقة.
فكيف إذا صارت هي مطلوبُهم الأول والأخير؟ نعم هي تأتي قَبْلَ كرامة العيْش نفسه؛ إذْ ما قيمةُ عيْشٍ وسط ضلالٍ طاغٍ وأكاذيب باغية؟ وليست أيّ حقيقة تستحقُّ أن يعرفها الناس ويؤمنوا بها ومن ثمّ يموتون في سبيلها. بل الحقيقةُ (الحقّ) التي عنها قال السيّدُ المسيح عليه السلام لتلاميذه: إنّها تُحرّركم! ولكم أحوَجَنا اليوم إلى التحرّر الداخليّ قبل الخارجيّ، وإلى التحرّر النفسي قبل الجسديّ، وإلى تحرّر المواطن قبل الوطن. إنّ الاستراتيجيات الكبرى تَخْدعُ أصحابَها في كثير من الأحيان. وللتاريخ أن يُحدّثنا عن ذلك كثيراً.
أمّا بالنسبة لي، أنا العاديُّ بلا نهاية، فإنّ هجرة شابٍ لبناني واحد، يأساً من كرامةٍ لا تفي بموعدها معه أبداً، وظُلماً وقعَ عليه من حُكّامٍ لا يرحمونه مُطلقاً، لهي أعظم عندي من احتلالٍ يحمِلُ في ثناياه بذورَ فنائه مهما تطاول زمنُه القبيح علينا. قد نستطيعُ تضميد جُرْحٍ في جَسَد الوطن عند مواجهة الأعداء الخارجيين، لنتابعَ القتال من أجل كرامتنا. لكنْ يفوتنا للأسف أن نرى النزيفَ الداخليّ للوطن الذي يُحتَضر بانفضاض أبنائه عنه، ونتصوّر مع ذلك، بأنّ الكرامة بألف خير. كلّا الكرامةُ ليست بخير أبداً!