تظلّ تسمع وتسمع محاولاً أن تفهم وتستوعب ما يُقال وما يُكتب. كان يهمك كثيراً أن تفقه الحديث من أي جهة أتى. لا يهم من المتكلّم؟ ما دام التركيز يذهب كلّه نحو الكلام. كأنّ الكلام لا يقوله أحد ولا يستعمله أحد. كأنّ الكلام ليس خدعة أحد ضد أحد. لكن مع الوقت، يصير انتباهك أكثر نحو الشخص المتكلّم. لا يعود الكلام مفهوماً عندك في غياب المتكلّم. تطلب المتحدّث قبل حديثه. تتحرى عنه بدقة وأناة. يسبق الوجه اللسان. يأتي الكلام آخراً. لا تُبهرك الكلمات، ولا تُعميك الصور، ولا تأخذ بتلابيبك الأساليب المنمّقة. تنام الكتب فوق الرفوف. تنام دهوراً. الموتى في قبورهم يمسحون الوقت عن رخام الأبدية. ترمي عليهم سلاماً قريباً وتمشي ليس بعيداً جداً. الموت في كل مكان. يموت الكلام مع الميْتِين. لكنّك عن حيّ تبحث دائماً. عن وجهٍ لا يزول. وعن كلام لا يجفّ. الأحاديث تملأ الفراغ. الأحاديث فراغ. كلامٌ يذهب وآخر يجيء مثل موج يرنّ فوق أذُن شاطئ مُتعب. تتفرّس في الوجوه الكثيرة من حولك. وتحترس من ألسنة طاعنة في الكلام. تلبس ليلاً طويلاً من الصمت. البردُ بين أصابعك قلمٌ لا يكتب. لو أنّك تستطيع لفعلت؛ تنامُ غير مُغمَض العينين. فالأحلامُ معطف النائمين. وأنت تريد واقعاً كالملح في عيونك. الكلّ يُفتّش عن الكلّ. وحدك تفوز بالخسارة. أبيضٌ كتابك دائماً. السطور فيه شبابيك مُغلقة. والحبر جدران عالية وقاتمة. فلا شيء يُصلح الريح بين ثقوب الأبجدية. لن تستمع إلى أحدٍ بعد اليوم. لن تصعدَ سلالم الكلام الرفيع برفقة خطيب أو بصحبة شاعر. ولن تلاقي فيلسوفاً على قارعة الشكّ. وإذا كتبْتَ، فستكتبُ محواً. كأنّها تُمطر على إسفلت المعاني المحروق. لأنّ الحرف يطردُ الحرف، ولأنّ المكتوب يلقي بثقله الأخير على هاويةٍ كلّ شأنها أن تضحك منك وعليك. ليس أمامك غير وجه وحيد. تلوذ بك إليك. تلوذ به إليه.