لا يعيش اللبنانيون الحقيقة. فهم اعتادوا على صنع الأكاذيب. لكل واحد منهم كذبته الكبرى. ولكل جماعة منهم خيمتها وحراسها الذين يقفون على مطامح زعيمهم الخاصة. النظر في الاجتماع اللبناني بعيون الحقيقة لا يودي إلى محل ولا يجلب الفهم إلى الناظر. لا بدّ في كل مرة من كذبة تغطي أختها. فكل كذبة كرة ثلج تكبر كلما تدحرجت في مسالك القلوب الباردة أو فوق ألسنة اللهب المتأجّجة. معالم الأشياء تكاد تختفي تماماً وراء ضباب الأكاذيب الأصفر. فلا أحد تعجبه ريح الحقيقة البتول أو يريدُ أن يسير مستقيماً مع هبوبها الطيّب. ستوصد كل الأبواب والنوافذ دونها. الحقيقة تحرّر لكن لا أحد منا يريد أن يتحرر من مخاوفه ومن هواجسه ومن أوهامه. الخيلاء يملأ رؤوسنا ويسخّنها تحت نار الأحقاد التي لا تنطفئ بيننا. كلنا أسرى داخل نفوسنا المريضة. وهذا الشقاء الذي يُمسك بتلابيبنا اليوم حتى يكاد يقتلنا بدم بارد، سوف لن يكون لنا منه شفاء طالما نحن بعيدون بهذا القدْر المهول عن كل حقيقة. إننا نكابد لطردها من حياتنا والإعلاء من شأن الزيف. فتزييف كل شيء بات مهنتنا الوحيدة. نُجيدها بحذاقة ونتعاون جميعاً على إدامتها. يُقتل الناس في وطننا بشتى الطرق ولا نفضح مجرماً. يُسرق الناس في بلادنا بشتى الأساليب ولا نفضح سارقاً. تنهار الدولة أو تكاد ولا نفضح مسؤولاً. يضيع الحق من بين أيدينا وألسنتنا ولا نفضح فاجراً. لكأننا أصبحنا في مغارة يصعب علينا الخروج منها. فالنور سيحرقنا جميعاً والظلال الباهتة هي ملاذنا الوحيد للهروب من هذا المصير الذي ينتظرنا في الخارج. كلنا أصبحنا من حيث ندري أو لا ندري شركاء في عصابة واحدة. ليس بيننا أبرياء حقيقيون. فقط درجات الذنوب التي اقترفها كل واحد فينا بقدر مستطاعه هي التي تميّز بيننا. معلّقون على خشبة واحدة والحبل بات قصيرا جدا. فإما أن تعود الحقيقة إلى حياتنا واجتماعنا أو أن نتفرق أكثر ونرحل جميعا!