أن تُحاكمَ كلام البشر بكلام البشر، فإنّ في ذلك ظنّاً يوْرثُ الإثمَ بعضُه، والندامةَ بعضُه الآخر . فالإنسان مهما أظهر من الحكمة في القول ومن التّبصّر في الأمر، فإنْ نفسَه تستعجله في الحُكْم حتى لتوقعه في الظّلم المُبين. وأيّ طالبٍ للحقّ يعلمُ ما في طلبه من مدافعة للنّاس ومن مجاهدة للنفس، لكأنّ طريق الحقّ تمرّ فوق حفرة من نار يسقط فيها من يسقط وينجو منها من ينجو وهم قلّة. وعند الفتن خصوصاً حين ينقلب الليل إلى نهار والنهار إلى ليل، فإنّ معرفة الحقّ من الباطل تُصبح أشدَّ وطأةً على العقول، وأبعدَ منالاً عن النّفوس. يوم يتقدّمُ تمحيص ما في القلوب على ما في الجيوب، ويكون الصّبرُ الشديدُ واحةَ الحقّ. وأجدُني وسط هذا سئمتُ تكاليفَ النّاس في الحقّ حتى أعيتني منهم الكلماتُ وسقط عن ضهري القلم. فبتّ لا أكتبُ إلاّ كُرهاً ولا أجرّ قلماً إلاّ حسرةً واشمئزازاً. قد تملّكني الحزنُ وابيضّ في عينيّ الحبر. وقلت في رُوْعي: ويلكَ كلامُ الناس. أعْرِض عن اللّغة وتمسّك باللّسان. فإنّه لك ميزانٌ يوم تخفّ أثقالٌ وتثقُل أخفافٌ. ورأيتُني أعوذ من نفسي وحديثها بكلام الله. به أُحاكمُ وإليه أحتكمُ وعليه أتّكل. لا فوق فوقه، ولا حقّ عليه يعلو ، ولا حكمة إلى مبلَغِه تسمو. فإذا بي أتدبّر بعض الآي كأنّي بها تُعاصرني روحاً وتعصرني تفكّراً. فيها مُنتهى القول وعليها جوامع الكلِم. حبلٌ ممدود بين السماء والأرض لا يتعلّق به سوى ناجٍ ولا يشذّ عنه إلا جاحدٌ. فقلت لنفسي: اهدئي يا نفسي المقتولة أسفاً على ما حبّرتي من كلام وما تخيّرتي من مسالك الخسران. ولتصبري على حكمٍ, اُللهُ مُبديْه في كل أوان لا يفوتُه إلا شقيٌ أو هلكان. ولتُخفِض يا قلمُ عقيرتك في يدي. خُذْ حصّتك من البياض كاملةً ولا تقلْ في ما يَبريْك غير كلام باريك: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ* (سورة البقرة- ١١-١٢)