يقولون الحياة صعبة، ويقولون الحياة سهلة. وأقول (من أنا لأقول؟) إنّ الحياة في قمّة الصّعوبة، وفي قمّة السّهولة. فالله منحنا الحياة ولم نكن شيئًا. النّفَسُ الذي نأخذه، والدّم الذي يسري فينا، والخلايا التي منها أجسادُنا، والأعضاء التي تقوم بوظائفها باقتدار، والنوم الذي يشفي أرواحنا، كل ذلك ليس منّا في شيء. لا قرار لنا في وجوده أو عدمه. نفتح عيوننا كل صباح على فراشٍ لا ندري أهو للرحيل أم للبقاء. لكنّنا قليلًا ما نُفكّر بالعطايا. فمن شدّة لينها تُنسينا الحياةُ نفسها. نصحو من موتٍ غير مكترثين برجوعنا منه، وننام على حياة غير مقدّرين لنُدْرتها فينا. هذه الطاولة أمامي التي عليها أغراضي ميّتةٌ على الدوام. وهذه الخزانة الكبيرة التي أعلّق فيها أيّامي لا تشاركني تردّدي في الألوان، وهذا السّقف فوق رأسي لا يقف إلى جانبي عند الصّعود. أن نظلّ أحياءً دونه احتمالاتٌ كثيرة. قد تسقط فوقي خشبةٌ حرّة، وقد يعضّني كلبٌ لأنّي حدّقت فيه، وربّما تجرحني وردةٌ على الطريق لأنّي دنوت من عطرها، وربّما تخطفني عصابةٌ للأعضاء البشريّة لأنّي فكرت يومًا بأن أبيع نفسي. من يدري لماذا هو حيٌّ بعد؟ الحرب، الخوف، الفقر، الجوع، والحاجة التي لا تُغمض عينها أبدًا، والخيانة التي تُزهر في الخاصرة، والاذلال الذي يحشو جلدنا كالقطيع، ومع ذلك أنا مثلكم حيّ. أضعفكم ولكن حيّ، أقلّكم مالًا وولدًا لكن حيّ. ولي ما لكم من غدكم كاملًا، فهل لكم بعض ما لي من الصّبر ورباط القلب؟ فالحياة تقلّب وانقلابٌ. يومٌ يستقيم وآخر يعوَجّ، ويومٌ يفتَكّ وآخر يتعقّد، ويومٌ ينبسط وآخر ينقبض. والحياة اعتيادٌ وتعوّد كالبصر للعين، وتكرارٌ ككتابة على دفتر الموج، حالٌ يمكث وحالٌ يزبد. والحياة إحياء لأمر وإماتة لآخر، نسيانٌ طويل وتذكّرٌ أقصر. فمن كان على نعمةٍ راسخًا قلبُه، لا المناصب أخذته عجلةً لدورانها، ولا المباهج اختارته عريسًا لظلالها، ولا النجاح أرخى عليه عباءته الصفراء، ولا حلّت فيه روحٌ غريبة أو أطلّت من عيونه سطوحٌ للأحزان، أو نما تحت أظافره عشبٌ للأماني، رأى الدنيا قشرةً تلمعُ من تحتها نجمة الفراغ. نعم الحياة صعبة لأنّه من الصعوبة لنا نحن المغرّرين بها أن نُدرك مدى سهولتها!