بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

18 حزيران 2021 12:00ص هل الأشياءُ هي الأشياءُ ؟

حجم الخط
أرجع إلى بيتي متأخراً عن الذاكرة. هل نسِيْتُ نفسي؟ أم نَسِيْتُ من أكون؟ هل أنا كُلّي الآن، أم أنّ من دخلَ للتّو ليس إلا بعْضي؟ لكنْ هِيَذي النافذةُ هنا، وهوذا البابُ أيضاً، وهنا السريرُ، وهناكَ مرآتي العابسة أبداً. كلُّ شيء على حاله. الشّباكُ لا يزالُ شبّاكاً، وإنْ خسرَ البارحةَ عصفوراً؛ ليكتملَ الرقمُ عشرة على الشجرة. والبابُ هو الباب، وإن بدّلَ السعالُ الديكيُّ من صوتِه الرخيْم. والسريرُ لم يَشْبَهْهُ آخرُ بعدُ في البيت. لا شيء تغيّرَ في مملكتي العابرة، ولا عضو سقطَ من جسدي الممْتدِّ خارجي. ومع ذلك، الوقتُ يمُر. أُدركُ ذلك جيداً. لكنّي لا أرى ظلَّهُ على وجوهِ أشيائي. أفتّشُ عنهُ الآن. ربما صار طابةً في الخزانة؛ سأفتحُها إذن، وأتركهُ يكرجُ منها مثلَ دمعةٍ رقيقة. أو ربما نامَ فوق سريري كنهرٍ بائسٍ، أرهَقهُ الجريُ، وأحبَّ أن يَغْفُوَ قليلاً فوقَ عُشْبي الرخيص. أو لعلّ الوقتَ يتشمّسُ هناكَ على الشُّباك، ويتعلّمُ حفظَ أُغنياتِ الحمَام. وحين أهجرُ بيتي بداعي السّفر أو الملل أو طول العِشْرة غير اللازمة، لا يدخلهُ الوقت من بعدي. كلُّ شيء صامتٌ بقناعةٍ وحِشْمَة. للوقتِ طعمٌ حادٌ، ولهُ أيضاً رائحةُ العبَثِ حيناً، والصّابونِ الأخضر أحياناً. وكان الوقتُ يلمسُني عن قربٍ، ويلمسُني عن بُعْدٍ؛ تارةً بحكٍّ خفيفٍ في القلب، وطوراً بقرْصٍ ثقيل في الذاكرة. وكنتُ أمامَهُ لا ألوي على نفسي؛ وأظلُّ أهذي بها، هل هي أنا؟ وكنتُ أتمسّكُ بالأشياء من حولي، كلّما انزلقتْ أنايَ منّي: ربما تحت السرير المعلَّقِ بالأفلاك، أو خلفَ الجدار المصلوب على الشفاه، أو في حوْض السباحة في مكتبي الصغير. وكان الوقتُ يَخْنُقُني بحبل رؤايَ الغليظ؛ فأرتابُ بالأشياء. الكرسيُّ الهزّازُ بجانبي، لماذا لم يفقدْ ضحكتَه الباذخةَ إذن؟ أم أنّه يخدعُني كلّما مَرجحَ أحزاني قليلاً؟ والطاولةُ البنيّةُ في مرمى أقلامي الفظّة، لماذا لم تفقدْ وقارَها بعدْ؟ أم أنّها تَخْتُـلُني بحبرٍ ليْليٍّ لا يكتبُني؟ والسّجادةُ المتواضعةُ في غرفة الجلوس، لا تزالُ تفرشُ الأوهامَ البيضاءَ تحت خطواتي العاثرة. لماذا لا تستقيل؟ واللوحةُ الغريبةُ فوق رأسي، أينما ذهبتُ، لماذا تُلوّنُني بالحنين لامرأةٍ زيتيّةٍ لا ألتقيها؟ أتُراها تَشُدُّني إلى جِذْعي في القصيدةِ أم تُقطِّعُني حجراً في مقالع الحلْقِ؟ وبابي الخشبيُّ لماذا لا يَمَلُّني ويركبُ البحر؟ هل الأشياءُ هي الأشياءُ أم أنا أريدُها أن تكون كذلك؟ 


أخبار ذات صلة