بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

8 كانون الثاني 2021 12:00ص وجعُ الكلمات

حجم الخط
لا شيء يوجعُ الكلماتِ في بياضها الوديع أكثرَ من حَبْلٍ غليظٍ يشدُّ عنُقَها الطريّ إلى جذْعِ خيالها المقطوع. كأنّ حطاباً أُوكلَ مهمّةَ الإفراج عن غابةٍ من أسرِ فأسه المصابِ بمتلازمةِ النهايات. ثمّة منْ يرى للكلماتِ قروناً يجرُّها منها بعنفٍ، كأنّها حيوانٌ يحتاجُ لترويض دائم. وينسىَ أنّ حُلْماً كاملاً قد تستوعبهُ كلمةٌ واحدة.

 فالحبُّ هو الحبّ، ومن جُبِّهِ تشربُ قُطْعانُ التفاصيل المنهَكةِ من السير الطويل. وكلمةٌ واحدةٌ تكفي لأختصرَ لحْمي وعظامي، تجاربي وأفكاري، وأقولَ: أنا. أنا ولا شيء غير أنا. أنا ولا أحدٌ معي. أنا وأنا فقط؛ حين أغرقُ في شؤوني وأحوالي، وأنا وأنتَ معاً؛ حين أخرجُ من كهفي وظلامي. 

وردةٌ واحدةٌ، تُعطِّرُ صفحةً تامّةً من حياةِ الكلمات. فما حاجتي إلى حديقة؟ وأَجِدُني أفرحُ بالكلمةِ الواحدةِ؛ كأنّها هديةٌ في هديّةٍ، فلا تتوقّفُ المفاجأة عن مباغتتي. وعلَّمتني الكلماتُ أن أُطيلَ النظر إليها، فأرى ما لا أرى. وأن أُرهِفَ السمْعَ إلى أنفاسِها، تتموّجُ على إيقاع الحروف، فوق الشاطئ البعيد. وعلَّمتني أن أحترمَ رأيَها بالجار، وبذي القُربى، وخصوصيّتَها في الاعتزال أو التقلّص كأُمنية. كما علّمتني أن أمتحنَ نفسي في صَلصالها، وأن أُقلّبَ كفيَّ تحت شجرتها. وكلمةٌ واحدةٌ كانت تكفي صيْفاً أُضَيِّعُ فيه شموسي، وخريفاً أصادقُ فيه الأغطية.

 أنا مجنونٌ هذا حالي، وأنا متصوّف هذا مقامي، وأنا أنا بلا ضمائرَ من زجاجٍ، وبلا علاماتٍ للوقف عند الشبيه أو الغريب. أيّ وضوحٍ بعدُ تطلبون؟ وتَنسَوْن أيّها الرعاةُ الصالحون، أنّنا نقفُ على كلمة، ونسقطُ من كلمة، وندخلُ في كلمة، ونخرجُ بكلمة، وعن كلمةٍ يكون أوّلنا، ويكون آخرُنا. وكنتُ إذا ظفِرتُ بموعدٍ مع كلمةٍ لم أنتظرْه، أتأملُّ فيها وأغرق. ولا أواعدُ غيرَها حتى تأذن لي، وتقولَ: خُذْ منّي الذكرى والعبْرة، وتولّني بالرحيل. فالكلماتُ مثلُ الكائنات، تأتي وتذهب، تظهر وتختفي، وتَنسى وتَتذكّر. 

ولا أذكرُ منذ متى وأنا أخافُ وصلَها أو تعليقَها على خشبِ الظلّ، وصرتُ أميلُ إلى تركها في باحة نفسها، حتى تطلبَ إليَّ الوصالَ بغيرها، فتأتلفُ وتختلفُ على سجيّتها. فلا شيء يُبهِجُ الكلماتِ في بياضها الهادئ أكثر من الإقامة في الأرخبيلات.

أخبار ذات صلة