بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

27 آذار 2020 12:19ص .. وكان!

حجم الخط
... وكان، كلمةٌ رغم ما يُقال عن نقصِها، فإنّها تحملُ في ثناياها كلّ الأشياء دفعةً واحدة. إنّها الرفرفة الأولى لأجنحة الأبجديّة التي من بينها تخرجُ الحكايات كما يخرج النّهار من الليل أو كما يندلقُ مطرٌ من ارتعاشات الغيْم. «كان يا ما كان في قديم الزمان»... مدفأةُ الشتاء القارس، قنديلُ الكلام في الحُلْكة الشديدة، حلْقةُ الصغار حول الأحلام المُتطايرة كألسنة النار من فم الخشب. في كل لحظة هناك كان. وكان الإنسانُ..! 

طيّةٌ تعانقُ طيّةً أخرى: كانَ ما كان. وأفقٌ يبسطُ ذراعيه الطويلتين ليحضنَ المسافات البعيدة بقوّة لا تُقاوَم: سيكونُ ما كان. إنّها المعنى الأثبت والأخير للكينونة: أن يكون (كلّ شيء) قد كان. هذا البحرُ أراه يموجُ أمامي بين الكاف والنّون. 

يصعدُ الحرفَ الأوّل كموجة ثائرةٍ ترى في العلوّ نجاتَها من التراب (وأنّى لها النجاة؟)، ويهبطُ الحرفَ الثاني كشلّالات من الزّبد تلمعُ أنفاسُها الأخيرة وسَط التلاشي. في هذه المسافة القصيرة بين خُيَلاء الكاف المتوثّبة، ووقار النون الجالسة على شاطئ الرحيل، تنطوي أكثر الرحلات عمراً. تنضغطُ دموعها وضحكاتُها في كلمةٍ واحدة. بعدَها كلُّ شيء يصيرُ غباراً من الذكريات.

 كان... الصوتُ الوحيد الذي يتمدّد في حنجرة هذا العالم. التفاصيلُ الإنسانيّة أينما وجدَت، تشتدُّ ملامحُها ضيقاً على ضيْق حتى لتكاد تختفي تماماً أو تُغلق عليها كالسلاحف البريّة درعَها الواقي. إلى جوار كان.. تؤوبُ الحكمة بعد مشوارها الطويل. في جرْسها (كانَ) أغنيةُ الراعي الصادق بين أماني الجبال الوعرة وسكينة الوديان المفروشة كحقول الصّمت المُزهرة. يصعبُ علينا قول كلّ شيء. ثمّة ما يفلتُ من غربال الكلام. وكلّما مضى بنا الزمانُ أكثر، أدركنا حاجتنا المُلحّة إلى الإيجاز البليغ.

 حينما تجتمعُ الأبجدية على حرفٍ صامت واحد لا تبارحُه أبداً. ليست كان ناقصةً في شيء. بل فيها تُكمل اللغة مسارها الدائري حول جينات العالم وفيروساته اللطيفة منها والقبيحة، قبل أن تستريحَ على قمّة الماضي التي لا قمّة فوقها. فعندَ آخر الضوء المُسرع في اتجاه المستقبل الإنساني بكامل هيئته وألوانه، تنتصبُ: كانَ!

أخبار ذات صلة