بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 أيار 2023 12:00ص 202 يوم على الشغور الرئاسي... والكرسي الأولى تنتظر شاغلها

نهايات معظم العهود ختمت بالقلاقل.. شمعون وثورة العراق وإيزنهاور و«التعمير»

حجم الخط
202 يوم على الشغور الرئاسي في لبنان، من دون أن تلوح في الأفق أي بوادر بإنجاز هذا الاستحقاق قريبا، وبعد 11 جلسة انتخابية لم تسفر عن أي نتيجة، تستمر الحكومة الميقاتية الثالثة التي تعتبر مستقيلة منذ بدء ولاية مجلس نواب في 22 أيار 2022 في مهام تصريف الأعمال، وفي وقت يواصل الدولار ألاعيبه وتحليقه، مترافقا مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور حياة الناس الاقتصادية والمعيشية والصحية والتربوية، وهو ما دعا «المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان» لأن يشير في بيان له «الى أن الانهيار الذي تشهده الليرة مقابل الدولار الأميركي في بيروت كبير جداً ويستدعي التوقّف عنده»، مشددا على أن» المسؤولية الكبرى تقع على الحكومة وعلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الملاحق في العديد من دول العالم بتهم الاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتزوير واستعمال المزوّر».
بشكل عام يتواصل الشغور الرئاسي ويستمر عداد فراغ الكرسي الأولى بالتصاعد، بانتظار إشارة مرور خارجية، عبر توافق دولي، وإقليمي وتحديدا عربي، كان يطلق عليه فيما مضى «الوحي» الذي يحوّله النواب في صندوقة الاقتراع باسم الرئيس العتيد، ولأن «كلمة السر» الحاسمة بشأن الانتخابات الرئاسية لم تصدر بعد، ليحوّلها نواب «الأمة» الى حقيقة في صندوقة الاقتراع الزجاجية، سيتواصل عداد أيام الشغور في الكرسي الأولى بالتصاعد «حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا» ويدخل اليوم الـ202 على شغور الكرسي الأولى، وتتعدد أشكال الأزمات التي ترمي بثقلها على الناس، وتطال كل نواحي حياتهم.

يلاحظ ان نهاية معظم العهود الرئاسية في لبنان انتهت بأحداث كبرى، وبعد ان عرفنا كيف كانت نهاية العهد الاستقلالي الأول، فان نهاية العهد الاستقلالي الثاني (1952 – 1958) لم تكن أفضل حالا بتاتا، الذي رغم الطفرة المالية التي حصلت في عهده وما يسمى البحبوحة، جراء تدفق المال الفلسطيني بعد اغتصاب فلسطين 1948، وتدفق مال الأثرياء العرب في سورية ومصر بعد التأميم الذي حصل في البلدين، والمال الخليجي بحكم الطفرة النفطية إلّا أن الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عهده، أسس لكل المصائب التي يعاني منها لبنان.

أموال التعمير

ففي عام 1956 ضرب صباح يوم 16 آذار زلزال مدمر بقوة 5.6 درجات على مقياس ريختر، فأصاب بشكل أساسي: الشوف وجزين وصيدا وبعض مناطق البقاع، فأدّى إلى مقتل 140 مواطناً وجرح 500 آخرين، و30 ألف مشرّد، إضافة إلى تدمير كبير في المباني وتجهيزات البنى التحتية ولا سيما الطرقات، ويومها فضحت كارثة الزلزال «هشاشة الدولة وعجزها في إدارة أي أزمة، وإلى اليوم وعند كل أزمة تصادفنا: حرائق، فيضانات، أزمة نفايات، تتصرف الدولة وكأنها مصدومة مما جرى، تتقاعس في تأدية واجبها تجاه الناس وتتجاهل أسباب تقصيرها».
ويومها أثيرت الكثير من الفضائح والشكاوى في عملية إعادة البناء والأعمار ودور العهد فيها، فكانت فضائح متعددة منها: التلاعب في جداول العمال من قبل الملتزمين المدعومين، اختفاء مبالغ من الدعم والتبرعات، تخصيص مخاتير بكميات كبرى من مواد البناء من قبل مهندسي التعمير لقاء هدايا وحفلات تكريم، وسجلت العديد من الشكاوى إزاء تصرف المهندسين الذين تعاملوا مع الناس بشكل فظ وديكتاتوري.

الانحياز للأحلاف الغربية

وفي العهد الاستقلالي الثاني، الذي لم يكتفِ بنسف أسس «الميثاق الوطني الذي يشدد على عدم دخول لبنان إلى الأحلاف الاستعمارية»، فكان أن أعلن العهد الشمعوني انحيازه إلى حلف بغداد عام 1954، ومشروع إيزنهاور عام 1956 وغيرهما...
طلب الرئيس شمعون تدخّل أميركا العسكري والذي حدّد أسبابه بخمسة هي:
1- المساعدة التي تقدمها جهات خارجية للثوار.
2- ان الشكوى إلى جامعة الدول العربية لم تعطِ أي نتيجة.
3- ان مراقبي الأمم المتحدة لم يقوموا بأيِّ عمل.
4- ان مجلس النواب أعطاني في جلسته المنعقدة في 16/1/1958 تفويضاً بالقيام بأيِّ عمل يضمن استقلال لبنان وسيادته وترك له حرية اختيار الظرف المناسب للتنفيذ.
5- ان قيام الثورة في العراق في 14 تموز 1958 كان من شأنه تشجيع الثوار على الاستيلاء على الحكم في لبنان. وهنا، يقول شمعون، استدعيت سفراء أميركا وبريطانيا وفرنسا وطلبت تدخّل الأسطول السادس.
لم تستجب واشنطن في البدء لطلب شمعون بإنزال قوات البحرية الأميركية، لكن قيام ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق، جعل واشنطن تستجيب لطلب الرئيس شمعون وأنزلت قوات المارينز على شواطئ بيروت تنفيذاً «لمبدأ إيزنهاور» وقد صرّح الرئيس ايزنهاور آنئذٍ، انه «لم يفعل ذلك إلّا تلبية لنداء رئيس الجمهورية اللبنانية».

لبنان أنتج ثورة 14 تموز العراقية

وبالمناسبة، فان البعض يرى ان الرئيس شمعون مذهل بتوقعاته كحال ما ينسب إليه انه في سنة 1976 ومع اشتداد أوار الحرب الأهلية وردّاً على سؤال حول مستقبل لبنان، أجاب الرئيس كميل شمعون: «خلي عينك على العراق»، وتمسّك آنذاك بمعادلة «عراق قوي، لبنان مستقر»، كما يقولون، مع انه لم يكن هناك أي تطورات أو أحداث في العراق، وللعلم فأن أحداث ثورة 1958 أو «الثورة الشعبية»، أو حتى «الحرب الأهلية» في لبنان أو سمّها ما شئت، كانت السبب المباشر لثورة 14 تموز في العام 1958 في العراق، ويذهب البعض الى التأكيد ان شمعون سرّع آنئذ بهذا الانقلاب، «كما اعترف الرئيس العراقي الأسبق الراحل عبد السلام عارف، لأن شمعون استنجد بالقوات العراقية في عهد نوري السعيد، كي تساعده على قمع الحركة الشعبية المعارضة في لبنان، أو على وقف ما أطلق عليه ثورة 1958، وبدلا من أن تأتي هذه القوات التي أراد نوري السعيد إرسالها الى بيروت بقيادة الضابطين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، توجهت إلى قصر الرحاب في بغداد، وقلبت النظام واستولت على السلطة».
بشكل عام، انه أمام التطور العراقي آنئذ بما يعني سقوط «حلف بغداد» لبّت الولايات المتحدة طلب الرئيس شمعون بالتدخّل العسكري بعد أن كانت قد رفضته سابقا، فأنزلت قوات المارينز على شواطئ بيروت تنفيذا «لمشروع إيزنهاور»، الذي أكد انه يلبّي نداء رئيس الجمهورية. ويسجل هنا موقف قائد الجيش اللبناني آنئذ اللواء فؤاد شهاب بأنه أصدر أمرا لكي يسجل موقفا ولو بشكل رمزي أنه ضد الاستنجاد بالأسطول السادس، بإرسال دبابة الى شاطئ الأوزاعي لكي يبلغ قوات الغزو الأميركي انه ضد وجودها في لبنان، علما ان الأميركي أراد من تواجد اسطوله إصابة عصفورين بحجر واحد هما:
أولا: تلبية طلب شمعون.
ثانيا: أن يرابط الاسطول السادس قريبا من التطورات التي استجدت انئذ في العراق، والتي واكبها نزول قوات بريطانية في المفرق في الأردن، لكي لا تتسع رقعة الثورات والانقلابات لصالح الوحدة العربية بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة (الوحدة بين مصر وسورية في شباط 1958). 

حين أذهل اللواء شهاب أدميرال الأسطول السادس

وبالمناسبة يروي سمير صنبر أنه عندما نزل المارينز على شواطئ بيروت صيف 1958 في جهوزية عسكرية شاملة لكي يخمدوا ثورة 1958، فوجئوا بالسابحات الفاتنات على شواطئ السان جورج والأوزاعي والسبورتينغ. توقفوا على الرمال ولم يتقدموا بانتظار تعليمات البنتاغون من واشنطن. وصلت رسالة عاجلة إلى أدميرال الأسطول السادس من قائد الجيش اللبناني اللواء فؤاد شهاب يطلب أسرع لقاء ممكن «تجنّباً لسفك الدماء» وحصل اللقاء على الواقف عند زاوية «الأيدن روك» آخر الرملة البيضاء.
حضر اللقاء ثلاثة ضباط، فقال الجنرال شهاب بكل هدوء وحزم ما معناه: «نحن، أنت وأنا عسكر، لعلنا نتفاهم، أنا قائد جيش لبنان المستقل، واجباتي حماية حدود الوطن وكرامته وسيادته، أقول لك وبكل مودة للدولة الصديقة الولايات المتحدة الأميركية، مع التقدير الواعي لقدراتها العسكرية، أنني سأكون وأركاني الضباط على استعداد للمواجهة الخاسرة بالطبع دفاعاً عن موقعنا».
فوجئ الأدميرال الأميركي، وأخذ يتطلع حوله مستغرباً ومستمعاً للجنرال الذي استمر يقول: «إذا كان المطلوب الأمن والنظام فنحن نتكفل بذلك، أما إذا كان الهدف الحقيقي مواجهة ثورة العراق، فإن كتاب الجغرافيا سيرشدكم إلى أماكن أقرب، وإذا كان الغرض القضاء على الخطر الشيوعي، فكما تلاحظ ليس هنا قوى شيوعية تحاول الاستيلاء على الحكم». أخذ الأدميرال يحدّق إلى وجه الجنرال الذي استمر ينفس بهدوء: «إذا أردتم المساعدة فالأفضل أن ترسلوا مبعوثاً مدنياً يستكشف الوضع ويتفاهم مع السياسيين» ثم أضاف بابتسامة باهتة: «أكلة الجبنة «الفروماجيست» عندنا مستعدون دائماً للتفهم والتفاهم». في لحظات، تحوّل التعجب إلى إعجاب، ورفع الأدميرال يده بالتحية العسكرية وهو يقول مودعاً: «جنرال، لقد تشرفت فعلاً بهذا اللقاء». ثم أمر جنوده بالانسحاب.
بعد تسارع الأحداث في لبنان في نهاية العهد الشمعوني أوفد الرئيس الأميركي إيزنهاور مساعده روبرت مورفي إلى لبنان، الذي اجتمع مع كل الأطراف. وتدارس الموقف معهم، ودسّ كما يقول يوسف سالم «اثناء حديثه سؤالاً عن الرجل الذي يستطيع إذا تولى الحكم، ان يُعيد الأمن والطمأنينة إلى لبنان ويقضي على الفتنة» فكان إجماع المعارضة على رفض تجديد الولاية لشمعون، وفهم من حديثهم ان «اسم الجنرال فؤاد شهاب مقبول».
وزار مورفي «شمعون ونصحه بأن لا يفكر في التجديد حتى لا يقال انه استعان بالجيش الأميركي ليجدد الرئاسة لنفسه، فأعرب شمعون عن خيبة أمله في أصدقائه الغربيين وفي طليعتهم الأميركيين» وقال له: «اني أحصد ثمار موقفي معكم ضد الشيوعية، وها أنتم الآن تقفون مع المعارضة ضدي».
وأجاب مورفي، كما يُؤكّد يوسف سالم، جواباً قاطعاً بقوله: «لا تجديد، وإنما نترك لك يا حضرة الرئيس ان تفكر في الأمر، ويبدو لي، بعد أن درست الموقف، ان اللواء فؤاد شهاب هو أصلح المرشحين في هذه الفترة العصيبة التي يمرُّ بها لبنان».
قَبِلَ كميل شمعون باللواء شهاب على مضض، مشترطا أن يظل في الرئاسة إلى آخر دقيقة من ولايته، مهما كلف الأمر، ومهما كانت الظروف.
وفي 4 آب 1958 تمّ انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وهو انتخاب وصف بأنه تمّ بعد توافق إقليمي - دولي، وبصفة خاصة مصري - أميركي، والتي يصفها مايلز كوبلاند بأنها جاءت مطابقة، لما كان يريده جمال عبد الناصر.
بأي حال، باستثناء عهدي الرئيس فؤاد شهاب (1958 – 1964) وإلياس الهراوي (1989 – 1998) يمكن القول ان كل النهايات لم تكن إلّا على الحامي.