تقسم طبيعة البداوة في العالم العربي إلى نمطين: نمط متحرك دوماً سعياً وراء الماء والكلأ أينما وجدا ودون اتجاه حركي محدد. ونمط ترحالي، وهو الذي ينزع فيه البدو إلى الرحيل بقطعانهم في دروب محددة بين مراع شتوية وأخرى صيفية، كما هي الحال بالنسبة لقبائل شبه الجزيرة العربية والخليج العربي والجزيرة السورية والعراقية وشمال أفريقيا والنمط الترحالي يشكل إذن الغالبية العظمي في تحركات البدو في المنطقة العربية. والتغيرات التي حدثت في المجتمع البدوي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الآن مصدرها عاملان رئيسيان: الأول هو الزيادة المضطردة في أعداد وأحجام قطعان الحيوان بسبب الاستقرار السياسي النسبي للمنطقة وانحسار النزاعات القبلية، والنزعة التقليدية تجاه حيازة أعداد كبيرة من الحيوان كمظهر من مظاهر الغنى والجاه.
أما العامل الثاني فهو التحول الاجتماعي الكبير الذي طرأ على معظم المجتمعات العربية خصوصاً في العقود الأربعة الأخيرة، فزيادة أعداد الحيوان وزيادة الضغط السكاني على الأراضي الزراعية وحراثة أراضي المراعي لزراعة الحبوب ساعدت على نقص انتاج المراعي للكلأ وهذا بدوره أثر على انتاجية الحيوان. وأصاب الاقتصاد البدوي، الذي كان من المفروض نظرياً أن يزدهر، التردي بسبب ضعف انتاج الحيوان لقلة الغذاء.
كما أن التحولات الاجتماعية للمجتمع العربي ككل لا يمكن أن تكون بدون أثر مباشر على المجتمع البدوي، الذي هو جزء من المجتمع الأكبر. هذه التحولات التي اتسمت في أغلب مظاهرها بتقبل أساليب المجتمعات الغربية بالسعي وراء الرفاهية المادية التي أثمرتها الحضارة الغربية، قد أدى إلى زيادة الهوة بين المجتمع الحضري الذي يتزايد رفاهة والمجتمع البدوي الذي يعيش على الطبيعة بأساليبها الفجة الجافة، وذلك في حد ذاته أوجد البذرة الأولى لرغبة البدو في هجر البادية والنزوح تجاه الحضر وهي وحدها المسؤولة عن تضخم المجتمعات الحضرية في العالم على حساب المجتمعات الريفية بأنماطها المتنوعة.
واتجاه الدول التي أفاء الله عليها بثروة النفط نحو توزيع عوائده على رعاياها. امتد لدرجة كبيرة إلى المجتمع البدوي، وبصور مختلفة أهمها مشاريع التوطين. وتوطين البدو يشكل عاملاً من عوامل الاستقرار السياسي والاجتماعي، إلا أنه ليس مفيداً بالضرورة لاستمرار الدور الذي تلعبه البداوة في اقتصاديات هذه الدول، حيث يميل المتوطنون تدريجياً إلى الاندماج في المجتمع الحضري وهجر البداوة. وإذا كان هذا مقبولاً في الدول التي تعاني من نقص في العمالة الوطنية فإنه بلا شك ذو آثار بعيدة المدى بالنسبة للدول الأخرى التي يجب أن تخطط لعصر ما بعد النفط والذي تعتمد فيه التنمية على مصادر الثروة المتجددة ومنها مراعي البوادي.
وتنبع خطورة تقلص المجتمع البدوي على المستوى العربي، من كون ثروة المراعي العربية لا يمكن استغلالها بصورة سليمة إلا بنظام الرعي الترحالي. فهذه المراعي تصنف على أنها مراع جافة أو صحراوية بسبب قلة الأمطار وقسوة الظروف البيئية، وتنوع أثرها بما يخلق مراعي صالحة للرعي في فصل الشتاء وأخرى صالحة للرعي صيفاً. وهذا يعني الحركة أو الرحيل المنظم بين النوعين. ولقد حدث هذه الخصوصية بكثير من الخبراء إلى الاتفاق على أن البداوة تمثل نظاماً اقتصادياً له خصوصياته وأهميته. وإنه ليس من المفيد اختفاؤه بقدر ما هو مطلوب ادامته وتطويره، أي إيجاد صيغة عصرية للبداوة، أي بداوة ترتكز على الأساليب التقليدية للمجتمع البدوي والتي رسخت منذ آلاف السنين. ومتطورة بمعنى اتصالها اجتماعياً واقتصادياً بالمجتمع الحضري، بهدف رفع المستوى الاقتصادي للمجتمع البدوي مع المحافظة على شخصيته المميزة. ويتمثل ذلك الاتصال في توفير الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية للبدو في البادية نفسها، وكذلك تحسين أساليب التسويق الحيواني لكي يحصلوا على عائد مجز لانتاجهم وتقديم المساعدات الفنية والمادية لتحسين مصادر الكلأ وتوفير المياه لهم ولقطعانهم.
تقاليد البدو
البدو مجتمع طريف له عادات وتقاليد محبوبة وقريبة إلى القلب لأنها نابعة من الطبائع العربية العريقة والأصيلة وشيخهم هو كبير القبيلة سناً عادة وأكثرهم حكمة وسدادة رأي، يدخل حكماً في فض المنازعات وإنهاء الخلافات استناداً إلى أعراف وتقاليد العشيرة، وهي أعراف متوارثة عن الأسلاف والجدود والآباء، اكتسبت نتيجة الخبرة المستقاة من المشاكل وحلولها على مر الزمان.
ولا يقتصر تطبيق الأعراف البدوية على مجال المنازعات والخصومات بل ينسحب أيضاً على الأفراح والأحزان على السواء. ففي حالات الفرح مثل الزواج أو الاحتفال بالضيوف تلعب الموسيقى البدوية والغناء البدوي من أناشيد وزجل وعتابا دوراً بارزاً في اضفاء أجواء بهيجة في لقاءات الأهل والأقارب أو أهل العريس وأهل الـعـروس، حيث يقترن ذلك بتقديم الـذبـائـح والـطـعـام المتنوع، ومن بينه «المناس» (خليط مـن الـرز والـلـحـم) وتزيين الـمـضـارب والـخـيـم، ويستمر الاحتفال أياماً حيث تنصب للعريس خيمة بعيدة استناداً إلى التقاليد البدوية ولا يجتمع بعروسه سوى ليلة الزفاف.
وللبدو أيضاً في مجال الطب الشعبي أو الطب العربي خبرة ومعرفة على الرغم من لجوئهم إلى استشارة الطب الحديث في الحالات المستعصية على معرفتهم الطبية التقليدية. فمن الأعشاب والنباتات المتنوعة يستخرجون علاجاً لمعظم الأمراض التي تصيب أعضاء الجسم. وأوجاع المعدة عندهم دواؤها نبات «الزوفة» و «القصعين» مثلا. أما الحرارة المرتفعة أو الألم فعلاجه «شطب» مركز الألم بشفرة صغيرة لاستخراج الدم الفاسد، وهو ما يعرف بـ «الفصد» وهناك الكي والحجامة والعلاج بكاسات الهواء للقضاء على الألم الشديد. وللدمامل أو البثور التي تشوه الوجه مزيج من السكر والدهن.
وينقلنا ذلك إلى مجال التجميل والتزيين والتبرج لدى البدو، حيث تحافظ الفتيات البدويات الجميلات على نضارة وجوههن «بالدقة، بدل مساحيق التجميل مثل البودرة وأحمر الشفاه، وتأخذ الدقة أشكالاً متنوعة وجميلة، ويمكن طبعها على الوجنتين أو على الجبين أو الذقن وتتضمن اسم الله وماشاء الله وغير ذلك من العبارات التي تخزي الحسد. أما رداء الرأس فيسمى «الطن» أو «الطاووس» وهو مثابة قبعة كرتونية تلفها قطعة قماش جميلة ملونة، يأخذ بعدها الرداء شكلاً هرمياً أو مستطيلاً ملفتاً للنظر.
وهناك عادة طريفة درجت عليها الأمهات البدويات تسهل عليهن حمل أطفالهن عندما يعملن في الحقول أو يمشين مسافات طويلة. وهي وضع أطفالهن في كيس قماش معلق على ظهورهن يسمى «الزبون».
لم يمنع انخراط البدو في الحياة العصرية من احتفاظهم بتقاليد واعراف وعادات موروثة لا مجال في نظر شيوخهم للمساواة عليها أو التفريط بها في أي حال، فهي التي تحتفظ للقبيلة بكيانها وتماسكها وتجعل منها مجتمعاً تاماً وقائماً بذاته!.
فنجد أن المجتمع القبلي مقسم إلى أربع طبقات، أولها الشيخ لذي قد تختلف طريقة اختياره وتعيينه بين قبيلة وأخرى كي يختلف لقبه، فقد يكون شيخاً كما لدى الحروك أو زعيماً كما يناديه عرف الشقيف والعيديين، أو ريساً كما عند عرب التركمان!. أما مهمة الشيخ فهي لا تختلف كثيراً بين قبيلة وأخرى، فهو مثل القبيلة لدى سائر البدو كما لدى المجتمع المضيف، يتمتع بالنفوذ وسداد الرأي والحزم، أما الغنى والتملك فليسا من أركان المشيخة وضرورياتها طالما أن العرف القبلي السائد يجعل كل عائلة ملزمة أن تقدم للشيخ ساعة يريد (نطيحة وذبيحة وبطيحة) .
اي نعجة حلوب وحمل وشوال قمح!.
ثاني الطبقات هو مجلس الشورى الذي يتألف من ١٢ عضواً ويشكل بالتنسيق مع الشيخ السلطة التنفيذية العليا للقبيلة، بينما السلطة التشريعية منوطة بشخص واحد يمثل الطبقة الثالثة ويسمى «العارفة» أو القاضي أو الكبير، ويتم اختياره من قبل السلطة التنفيذية على أن يكون ناضجاً عارفاً بالقوانين والشرائع وعلوم الفقه والقضاء، ومهمته الفصل في الجرائم عملاً بقاعدة «العين بالعين والسن بالسن والجرح قصاص وإن صفحتم فخير لكم»!.
من وصوناً لوحدة القبيلة التي يشكل أفرادها طبقتها الرابعة، دأب البدو على اعتبار جرائم القتل التي تتم ضمن العشيرة الواحدة حوادث قضاء وقدر لا يتوجب على مرتكبها إلا دفع دية القتيل، وأحياناً النفي إضافة إلى الدية منعاً لعمليات الثأر. أما جريمة الآخرين بحق فرد من القبيلة فقاعدتها «العين بالعين»، ويتم تجنيد ثلاثة شبان أشداء القبيلة لتنفيذ الحكم بالقاتل فيما لو امتنع أهله وقبيلته عن انزال القصاص به، وكذلك الأمر بالنسبة لجرائم الشرف والاعتداء على «عرض» القبيلة، فلا مجال هنا للتهاون والمساومة، هذا ما يؤكده الشيخ «متعب اللويس، عضو مجلس شوری قبيلة «اللويسات»، المقيمة في الكرك، بمعرض روايته لقصة فتاة بدوية هربت مع شاب غريب وتزوجت منه بطريقة «الخطيفة»، ويضيف أن القبيلة أوفدت يومها «بعثة قصاص» من ثلاثة شبان بحثوا طيلة سنتين حتى وجدوا الفتاة الهاربة وزوجها في بلدة من عرل الجل باقليم الخروب ونفذوا فيهما شرع القبيلة وغسلوا عارها!.
وإلى جانب تلك السمات البارزة في المجتمع القبلي، نعرف أن التزاوج والتصاهر مثلاً لا يكون إلا مع البدو دون المحيط، ولا زواج للبدوي الذي لا يتقن صنعة ما وحتى لو كان ابن الشيخ» قالت «عقلة الخويلد» من عرب الموالي في حوش برده، وأضافت أن مهر العروس عبارة عن خمسة حملان وخمس وعشرين نعجة حلوباً ومضرب (خيمة)، استبدلت اليوم بشقة تماشياً مع متطلبات التحضر والعصرنة. هذا ولا زالت العادة في الأعراس أن يقوم كل ذي رب عائلة من أقارب العريس بتقديم ذبيحة لوليمة العرس الذي ينتهي عادة بادخال العروسين إلى «القبلة» أو «الزرب، لينفردا طيلة ثلاثة أيام بلياليها بعيداً عن أعين المتلصصين.