بيروت - لبنان

15 آب 2022 12:00ص «الميكـــي» شعب يعيش من دون مـاء!

حجم الخط
مـن يعرف «الميكـي»؟
إنهم جماعة من الرحّل يشكّلون حالة فريدة من العودة إلى الحياة البدائية. «الميكي» ليسوا إثنية، بل هم من سكان مدغشقر اختاروا منذ ثلاثة قرون الانسحاب من الحياة المدنية والعودة إلى الغابة، حيث لا سقف لهم ولا يخضعون لأيّ قانون، لكن أيضاً حيث لا ماء ولا زراعة، إنه نظام البقاء.
تحكي الأسطورة أنه في أعماق غابة «توليار» شبه الخالية من السكان جنوب غربي مدغشقر، تعيش جماعة من صغار القامة ذوي لون رمادي، يابسين كالعيدان ونحيلين مثل المسامير، وتطلق عليهم تسمية «الميكي» وإلى جانب القامة الصغيرة والاسم الغريب، تتميّز هذه الكائنات الغريبة الأسطورية بأنها غير مرئية من الجميع. إلاّ أن شهادات كثيرة تؤكد وجودها.  فهناك من يُؤكّد نقلاً عن شخص كان محظوظاً ورأى الميكي، أنهم يظهرون في الليل فقط ويختفون وسط غابة معادية للحياة. لا يشربون أبداً ويموتون مجرّد ملامستهم للماء. هكذا يعيشون، عُراة رحّل ابداً وكأنّ الزمن بالنسبة إليهم توقف في العصور الحجرية.
 الباحثون القليلون الذين حاولوا الاقتراب منهم عادوا بمعلومات غريبة. أوّلهم «لويس مولي» الذي قام برحلة في «خليج القتلة» في العام 1956، واستطاع أن يلاحظ أنهم ليسوا أقزاماً مثل «البيغمي».. وأنه من المستحيل البقاء على قيد الحياة في الغابة بسبب انعدام وجود الماء كلية، وبعد مرور خمسة عشرة سنة، تحرّك الرحّالة الثاني والأخير، وهو جان ميشيل هورنر التقى بعائلة من «الميكي» وكان له معها حديث سريع جداً. ثم بدأ على أساس استطلاعات محددة قام بها بعض الطلاب من مدغشقر، استطاع أن يدلي ببعض المعلومات الصحيحة حولهم.  
والحقيقة أن الواقع تخطَّى في غرابته الأسطورة. 
شعب يعيش من دون ماء
فكما يبين هورنر، «الميكي» هم على الأغلب الوحيدون في العالم الذين يستطيعون البقاء من دون ماء! يتكوّن غذاؤهم أساساً من نوع من الجذور ومن القنافذ والعسل. وهم لا يشكّلون إثنية بل هم تجمّع من الصيادين «الغيزو» والمزارعين «المازيكرو»، وهذا عادي جداً في تلك المنطقة. ولكن ما هو غير عادي أنهم يرفضون أية علاقة أو صلة بالعالم.
فمنذ مئات السنين لجأ بعض المزارعين المفلسين والفقراء الى الغابة في محاولة للاستمرار والبقاء. وفي القرن التاسع عشر، أثناء الحكم الفرنسي، لحقت بهم موجة ثانية رفضت الخضوع للسلطة الفرنسية، وتسميتهم تأتي من عبارة «تسي ميكي هي» أي الذين لا يحتملون أن تلقى عليهم الأوامر!  لكنّ غياب السلطة التام له صعوباته؛ فعلى مدى القرون، تبع الميكي هذه الحكمة التي تلخّص ثقافتهم: «لنعِش مختبئين من أجل أن نحيا». 
بعد إلغاء الضريبة في العام 1972، قبل بعض «الميكي العودة إلى قراهم. والذين استطاعوا أن يتطبّعوا من جديد يتميّزون عن الرحّل بلجوئهم إلى الزراعة على الوقيد، لكنهم حافظوا على نمط التغذية نفسه، وطراز السكن نفسه، وكذلك نمط الحياة. أما الذين لم يستطيعوا التأقلم، فعادوا الى الغابة. ويشرح البروفسور هورنر أن ذلك هو ما يُشكل غرابة «الميكي» وميزتهم، فهم على معرفة جيدة بالحضارة أو بالحياة الحضرية المدنية. لكنهم اختاروا ان يعيشوا كالبدائيين». ويُقدّر عددهم بحوالي 1500 نسمة، بينهم مئة فقط من الرحّل الحقيقيين، غير المستقرين. ويقول أحد الكهنة من سكان المنطقة أن «الميكي» هم حتماً البشر الأكثر حرية في العالم. يعيشون وحدهم، ينامون وحدهم، يبدّلون مكان وجودهم باستمرار. حتى أنهم يرفضون تأسيس عائلة. النساء يلدن فوق حفرة قبل الانطلاق نحو مغامرات جديدة. إنهم كائنات مكتومة. من يعرفهم يقول إنهم غير موجودين، قد يمرّ أحد على مقربة شديدة منهم دون أن يلاحظهم. «الميكي يتماشون أمثالهم». 
من أجل البقـاء 
لكن قد يكون البعض محظوظاً ويلتقي بهم بعد جهد وبحث طويل وسط الغابة، هذا ما حصل للصحافيين ميشيل رفّول وجان كلود بتّاتشي اللذين يرويان في مجلة «ريبورتاج» الفرنسية قصة بحثهما عن «الميكي» وسط الغابة مع دليل، وكيف أن الأشواك الناعمة كالإبر دخلت في بشرة وجهيهما وفي جسديهما، من دون جدوى. وذات ساعة كانت الحرارة فيها خانقة والأغصان كثيفة إلى حد غير معقول؛ خرج إليهم من بين الأغصان رجل عجوز ومدّ يده، ويقول الصحافيان إنه بعد هذا اللقاء غير المتوقّع، انقشعت الطريق في الغابة مثل السحر، وبانت الأكواخ الصغيرة المصنوعة بشكل بسيط وبدائي جداً. ورأى الصحافيان مجموعة من الأطفال المجتمعين حول امرأتين في رقعة طفل صغيرة. وكان حوالي عشرة أشخاص من «الميكي» يعيشون في هذا المخيم الصغير. الرجال ذهبوا بحثاً عن جذور»البابو» غذائهم اليومي. وكان هذا المخيم يقوم وسط حقل محروق. لا طيور ولا أصوات بل ذرة محروقة على مدّ النظر. وكان هؤلاء أشبه بالصورة التي رسمها عنهم مولي وهورنر، لكن الفارق الوحيد أن هؤلاء يمارسون الزراعة على الوقيد، وبالتالي ليسوا من الرحّل، وتبين انهم يعيشون في هذا المكان منذ ثلاثة سنوات، لكنهم حافظوا على نمط حياتهم السابق. وسأل الصحافيان هؤلاء حول «الميكي» الرحّل، وكان الجواب «الذين يعيشون كالحيوانات يختبئون باستمرار». 
وفي صباح اليوم التالي، تابع الصحافيان بحثهما في الغابة بحثاً عن «الميكي» الرحّل برفقة دليلين. لكن لا أثر للميكي الرحّل، ولم يعثروا إلاّ على مخيّمات أخرى من الميكي المستقرين، حيث لا كهرباء ولا ماء، وكل عائلة تكتفي بأدوات قليلة للمطبخ وتكتسي ببعض الخرق البالية. 
وبعد أن دار الصحافيان في غابة طولها ثمانون كيلومتراً وعرضها ثلاثون كيلومتراً، على حدودها الشرقية تمتد طريق معبّدة والبحر يحدّها غرباً. لم يعثرا على هذه الجماعة من الرجال غير المرئيين حرفياً، والمُتشبّثين برغبتهم في عدم اجتياز الكيلومترات القليلة التي تفصلهم عن المدينة، فهل هم خائفون أم مخيفون؟
وعندما قرّر الصحافيان التوقف عن البحث، التقيا بفرنسي كان يعمل لحساب حكومته في المنطقة، وكان قد التقى بالميكي، وشرح لهما انه «إذا كان الميكي غير مرئيين، فذلك أولاً كي لا يقتلعوا من غابتهم. وأهل القرى يتجنّبونهم إما احتقاراً لهؤلاء المتوحشين أو خوفاً. فالميكي يعرفون جيداً كل النباتات والأعشاب ومفعولها، لكنهم أيضاً من المُنجّمين. وينظر إليهم كسحرة يجب التوقّي منهم. إنهم فعلاً جماعة أسطورية ومكتومة. وقال أيضاً هذا الفرنسي أن الرحّل على صلة بالميكي الذين استقرّوا تحت تأثير المبشّرين. وفي الغابة يعرفون بعضهم عبر إطلاق أصوات أو صرخات حادّة، ولا يظهرون إلاّ إذا تعرّفوا إلى صوت صديق». 
وعرّفهما هذا الفرنسي إلى صديق له من الميكي المستقرّين الذي يعرف جيداً اخوانه الرحّل. وفي محاولة أخيرة، عاد الصحافيان مع دليلهما الجديد إلى الغابة. وبعد ساعة من السير، قام الدليل بإطلاق بعض الصرخات الطويلة والحادة جداً. ومن البعيد، من أعماق الغابة، جاء الجواب على شكل صفير. ضحك الدليل وقال ان النساء وحدهنّ، فالرجال ذهبوا بحثاً عن جذور «البابو». 
ودخل الدليل في عمق الغابة، واستمرّ الصفير. فكانت النساء قد سمعن صوت الصحافيين وخفن.  فالميكي في البداية اعتبروا البيض «كزناهاري» أو آلهة. لكن سرعان ما غيّروا رأيهم وأطلقوا عليهم تسمية أخرى وهي «بيبيراتي» أي الحيوانات الرذيلة.وكان الحوار مستحيلاً مع تلك النساءالخائفات. لم يكن هناك شبه كبير بين الميكي الرحّل واخوانهم المستقرّين. فلون بشرة هؤلاء كانت شبه رمادية بقدر ما خدشتها الأشواك، وهم صغار (قصيرو القامة) لكنهم ليسوا أقزاماً كالبيغمي، وسيقانهم مشوّهة بسبب نمط حياتهم. وانتقال الصحافيان ودليلهما إلى مخيّم آخر، حيث كان الرجال موجودين. فاستقبلتهما النظرات الخائفة نفسها، وشرح لهما الدليل أن هؤلاء «الميكي» يغيّرون مكان وجودهم كل ثلاثة ايام. ولا يلتقون بعائلات أخرى مثلهم، فهم كما قال أحدهم «ليسوا بحاجة إلى الآخرين». 
ربما كانوا يتحاشون بعضهم البعض، فشرط البقاء الوحيد في الغابة هو التشتّت كي يسهل العثور على الطعام في كل الفصول.
-وإذا لم تعثروا أبداً على جذور «البابو»؟ 
-هناك دائماً جذور بابو في مكان ما.
-هل تعتقدون أنه لا يوجد إلـه؟
-في جميع الأحوال، لم يعلمنا أحد بذلك.
هكذا يعيش الميكي جائعين؟ يحفرون الأرض ناعسين. يشعلون النار وينامون حيث يجدهم الليل. حياتهم ملخصة في البحث اليومي عن الطعام الذي يسمح لهم بالبداية من جديد في اليوم التالي. لا دين، لا انتاج، لا ثقافة، وعدم اكتراث لباقي العالم: إنها حضارة الرفض، كل ما تبقَّى ليس إلاّ كلاماً. 
وفي منطقهم البدائي الصحيح موضوعياً، يتساءل الميكي: «لماذا نترك الغابة؟ صحيح. لماذا يتركونها؟ لكن الغابة التي يتمّ حرقها وحرثها من أجل الزراعة قد تختفي قريباً. وبعد عشر سنوات أو حتى خمس، ربما لن يعود هناك أي أثر للميكي الراحل؟