بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 تشرين الأول 2020 12:02ص 17 تشرین بین استمرار المنظومة والحرب الأهلیة

حجم الخط
عام مضى على انطلاق ثورة 17 تشرین التي تعددت توصیفاتها ومسمیاتها طبقا لخلفیات مطلقیها. فهي بنظر أهلها بین الانتفاضة والثورة. وبنظر بعض السلطة الرسمیة وناظم عقدها حزب لله، حراك.

لكن وبغض النظر عن تمایزات التوصیف وخلفیاته غیر البریئة، فإن 17 تشرین مفصل تاریخي سمح لأول مرة في تاریخ لبنان واللبنانیین ببلورة كتلة شعبیة وازنة وجارفة مخترقة للجغرافیا والدیموغرافیا والدینوغرافیا. كتلة شعبیة استظلّت العلم اللبناني وتحدثت بلغة واحدة، ورفعت شعارات موحدة من ساحات بعلبك، تعلبایا، سعدنایل، صیدا، النبطیة وصور، كما وساحتي الشهداء وریاض الصلح وجسر الرینغ في بیروت، مرورا بجل الدیب، انطلیاس، الذوق وجبیل والبترون وصولا الى ساحة النور في طرابلس ولیس انتهاء بساحة حلبا في عكار.

كتلة شعبیة رفعت صوتها بوجه منظومة المال والسلطة والسلاح، فنزعت ورقة التوت عن أقطابها، وتمكنت من إسقاط حكومة سعد الحریري في الشارع، وفرضت أدبیاتها وشعاراتها على حسان دیاب وحكومته التي بدت من شدة تحنطها امتدادا للحكومة التي سبقتها في فشلها بوقف الانهیار ومكافحة الفساد ومنع تحقیق استقلالیة القضاء.

17 تشرین نجحت في إزالة الوهم عن حقیقة الوضع المالي والنقدي والمصرفي، وهزّت أركان حكم المصرف دون أن تتمكن من الحاكم وهندساته المالیة التي كانت بمثابة السوس الذي نخر عظام النظام المصرفي اللبناني حیث أطبقت العقوبات الأمیركیة المستهدفة لحزب لله وامتداداته المصرفیة على أنفاس اللبنانیین أكثر من منظومة الحزب والمتعاملین معه.

17 تشرین التي باتت حیثیة او طائفة جدیدة ضمن موزاییك التركیبة اللبنانیة، ولیس بدیلا حقیقیا عنها، نجحت في تشخیص مفاصل الداء السیاسي والاقتصادي والقضائي في الدولة اللبنانیة. لكنها فشلت في تقدیم وصفة العلاج المتناسبة مع حجم الأمراض السوبر مستعصیة في الجسد اللبناني المنهك والمتآكل والذي لم تعد تنفع معه المسكنات الموضعیة، في حین یصعب استئصال الأمراض المزمنة بالجراحة، لأنها ستمیت ما تبقى من هیكل الدولة المتداعي والمریض.

17 تشرین هزّت أوتاد المنظومة قویا، فصدّعت بنیانها وأثخنته وأربكت ممارساتها وعرّتها أمام دول العالم التي أعلنت انحیازها لآلام الناس خصوصا بعد تفجیر مرفأ بیروت الهیروشیمي والذي لم یفك المحقق العدلي وفرق التحقیق الأجنبیة طلاسم شیفرته التي فكّها اللبنانیون منذ لحظة الانفجار وحملوا حزب الله المسؤولیة أقله لجهة رعایته للمنظومة وقد عزّز مسؤولیة الحزب إبعاده أجهزة الدولة الأمنیة والعسكریة ووسائل الاعلام عن موقع الانفجار الغامض في بلدة عین قانا الجنوبیة.

لكن الطغمة الحاكمة بلعت كل إهانات العالم ولیس ماكرون فقط، عندما قرروا ارسال الدعم والمساعدات مباشرة لمتضرري انفجار بیروت عبر مؤسّسات الأمم المتحدة ولیس عبر مؤسّسات الدولة الفاقدة للثقة والمصداقیة. ورغم هذا سطت المنظومة على مساعدات إغاثیة وغذائیة ودوائیة، كما امتدت الید السوداء الى أدویة اللبنانیین التي فقدت من الصیدلیات، وخزنت في مستودعات میلیشیا الدواء المتفرعة من منظومة الفساد والسلطة والسلاح.

انفجار مرفأ بیروت كشف عن مشروعیة 17 تشرین وحقیقة مطالبها في كنس منظومة الأمونیوم والفساد. كما كشف بأن من یحكم اللبنانیین سلطة قاتلة عمدا أو إهمالا، أو تسترا على جریمة متمادیة عبر الزمن في تحویل رئة بیروت ولبنان الاقتصادیة الى مستودع كبیر للأمونیوم وغیره من الممنوعات المحمیة، والمموّهة ببعض الأعمال التجاریة بعیدا عن الضرائب والرسوم الجمركیة ورقابة الأجهزة الأمنیة والاداریة.

فما الذي منع 17 تشرین من تحقیق إنجازها المتمثل في كنس منظومة الفساد واجراء الإصلاحات الجراحیة الواجبة في بنى الدولة وهیاكلها الاقتصادیة والمالیة والسیاسیة والإداریة والقضائیة والأمنیة والعسكریة فضلا عن التشریعیة؟

بیّنت التطورات المیدانیة خلال عام مضى، أن تواطئا كبیرا بل توافقا قد حصل بین أطراف المنظومة للإجهاز على 17 تشرین تمثل:

أولا، بتهدید زعیم حزب لله حسن نصر الله ووعیده المتكرر للثورة واتهامها بالعمل لصالح سفارات وأجندات خارجیة، ثم بالعمل على اختراق صفوفها وإجراء فرز وتصنیف لمجموعاتها تراوح بین العمالة للخارج او للداخل المتخاصم مع حزب لله ومشروعه الإقلیمي، وبین المطالب المشروعة والمحقة لبعض المجموعات التي أعلن الحزب التحاور معها لتحییدها، في حین عمد لزجر مجموعات أخرى بالعصا الغلیظة المتمثلة بغزوات شباب الخندق الغمیق المتكررة (بهتاف شیعة شیعة) لبعض الخیم في ساحتي الشهداء وریاض الصلح وإحراقها والاعتداء على المتظاهرین بالتكافل والتضامن مع بعض الأجهزة الأمنیة الرسمیة مثل حرس مجلس النواب.

ثانیا، بتحریض غیر مسبوق من التیار الوطني الحر ورئیسه جبران باسیل الذي بسبب أدائه النكبوي في ملفات الطاقة والكهرباء وآخرها معمل سلعاتا لإنجاز «الأمن الكهربائي المسیحي» كما ولافتعال الكثیر من المشكلات مع المتظاهرین في البترون وغیرها وتهدیدهم بحیث بات لمناطق نفوذ باسیل وأیضا لكل منطقة لحزب السلاح نفوذ ما فیها ومنها طرابلس خندقها الغمیق المعروف باسم «سرایا المقاومة» التي عملت على ترویع الأهالي وإرهاب المتظاهرین.

ثالثا، قیام بعض بقایا قوى 14 اذار بالاندساس ضمن فعالیات 17 تشرین والانخراط في فعالیاتها، بهدف توجیه بعض الأنشطة ضد خصومهم من القوى السیاسیة.بمعنى آخر فقد ركبت بعض القوى موجة 17 تشرین بهدف تصویرها كامتداد لحركة 14 اذار التي انفرط عقدها ولم یتبق منها سوى اسمها، والتي حاولت تسجیل استقالة حكومة سعد الحریري ضمن منجزاتها عبر رفعها نفس شعارات المتظاهرین ما صعّب التمییز بین الآذاریین و17 تشرین أیضا في سقوط حكومة حسان دیاب المطعمة ببعض الأخصائیین المستقلین التي استقال بعض وزرائها قبل أن یقصم انفجار المرفأ ظهرها.

 رابعا، استشراس القوى المتنفذة في المنظومة ومنها ساكن القصر الجمهوري في استعمال القضاء والأجهزة الأمنیة واستخدامهم لترویع الثائرین بحجة التعرض لمقام الرئاسة وإشغالهم في الدفاع عن أنفسهم بهدف ترویض 17 تشرین أكثر من الحفاظ على هیبة الرئاسة ومقامها اللذین سقطا شرعیا من أعین الناس والمجتمع العربي والدولي، لكنهما منتصبین بقوة حزب السلاح.

خامسا، اندفاع بعض القضاء والأجهزة الأمنیة في ملاحقة بعض الناشطین بتهمة العمالة لإسرائیل، بهدف التغطیة على إفراجهم المهین عن عامر الفاخوري، وأیضا عن أدبیات جبران باسیل في عدم الاختلاف الأیدیولوجي مع إسرائیل وحقها في العیش بأمن وسلام. في حین أن رئیس الجمهوریة میشال عون یقفل أدراجه على التشكیلات القضائیة التي أقرها مجلس القضاء الأعلى، ما یمثل ضربا لصمیم مبدأ استقلالیة القضاء، وهو المبدأ الأساس الذي رفعته 17 تشرین كأولویة تتقدم مطالبها.

سادسا، كشفت المفاوضات بین لبنان وإسرائیل لترسیم الحدود وقبلها اعلان نبیه بري عن اتفاق الإطار، عن تحوّل محور الممانعة الى محور الترسیم الذي أسقط كل منطقه الممانع في الناقورة تحت شعار استثمار موارد لبنان الغازیة والنفطیة، وهو الترسیم الذي تعرّض بسببه ثنائي الترسیم حزب لله وحركة أمل الى تنمّر متواصل من بیئتهم ومن خارجها أیضا، كما یبدو أن تحالف مار مخایل بین حزب الله والتیار العوني، تعرض بدوره لبعض الاهتزاز خصوصا أنه كشف أن هدف التفاهم هو مجرد تقاسم للسلطة ومغانمها. وهو الأمر الذي لطالما سلّطت 17 تشرین الأضواء علیه، وشكل منطلق مطالبتها بإسقاط كامل منظومة الأمونیوم والترسیم.

سابعا، كشفت محاولات بعض المنظومة ممثلة بسعد الحریري لتشكیل حكومة تتبنى تنفیذ مبادرة ماكرون عن حجم الخلاف الذي یعصف بین أركان منظومة المحاصصة وخصوصا مع جبران باسیل المتطلع لوراثة كرسي جمهوریة الأشلاء، والذي وصل به الأمر في سیاق فیتو وضعه على تكلیف الحریري بتشكیل الحكومة الماكرونیة بعد اعتذار مصطفى أدیب، الى حد التهدید بالذهاب لما هو أبعد من الفیدرالیة.

ما تقدم یشي بأن الوضع اللبناني بات كقدر یغلي على نار مستعرة، یتسابق فیها إنضاج تسویة ما، مع اندلاع «حرب أهلیة» جدیدة تحدث عنها سعد الحریري في اطلالته الأخیرة، وتخوّف منها ولید جنبلاط الذي أبدى ندما حیال دوره في أحداث 7 أیار الشهیرة، وسرّب بعض الاعلام الممانع جاهزیة رئیس القوات اللبنانیة سمیر جعجع لخوضها بنحو 15 ألف مقاتل، مقابل طروحات باسیل التقسیمية أو الـ«ما بعد فدرالیة».

كل هذا فقط لأن 17 تشرین كشفت عبر حراكها السلمي وعرّت كل منظومة الفساد والسلطة والسلاح ومیلیشیا الأمونیوم والترسیم التي تخوض بكلها وكلكلها بالتكافل والتضامن آخر معاركها الدینكشوتیة لإعادة إنتاج نفسها ولو في قعر جهنم.