بعد تسارع الأحداث عام 1958 أوفد الرئيس الأميركي ايزنهاور مساعده روبرت مورفي إلى لبنان، الذي اجتمع مع كل الأطراف، وتدارس الموقف معهم، ودسّ كما يقول ويوسف سالم «أثناء حديثه سؤالاً عن الرجل الذي يستطيع، فيما إذا تولّى الحكم، أن يعيد الأمن والطمأنينة إلى لبنان ويقضي على الفتنة» فكان إجماع المعارضة على رفض تجديد الولاية لشمعون، وفهم من حديثهم أن اسم الجنرال فؤاد شهاب مقبول». وزار مورفي «شمعون ونصحه بأن لا يفكر في التجديد حتى لا يقال أنه استعان بالجيش الأميركي ليجدد الرئاسة لنفسه، فأعرب له الرئيس شمعون عن خيبة أمله في أصدقائه الغربيين وفي طليعتهم الأميركيين وقال له: «إني أحصد ثمار موقفي معكم ضد الشيوعية، وها أنتم الآن تقفون مع المعارضة ضدي».
وأجاب مورفي، كما يؤكد يوسف سالم، جواباً قاطعاً بقوله: «لا تجديد، وإنما نترك لك يا حضرة الرئيس أن تفكر في الأمر، ويبدو لي، بعد أن درست الموقف، أن اللواء فؤاد شهاب هو أصلح المرشحين في هذه الفترة العصيبة التي يمرّ بها لبنان».
قَبِل كميل شمعون باللواء شهاب على مضض، لكنه اشترط أن يظل في الرئاسة إلى آخر دقيقة من ولايته، مهما كلف الأمر، ومهما كانت الظروف.
وفي 4 آب 1958 تم انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وهو انتخاب وصف بأنه تم بعد توافق إقليمي - دولي وبصفة خاصة مصري - أميركي، والتي شاء مايلز كوبلاند أن يصفها بأنها «جاءت مطابقة لما كان يريده جمال عبد الناصر» حتى بدا وكأن جنود البحر الأميركيين جاءوا إلى لبنان لخدمة أهداف ناصر لأن رئيس الجمهورية الجديد كان عبد الناصر أول من رشحه مع رئيس حكومته رشيد كرامي لقيادة البلاد، وهكذا تسلم الرئيس فؤاد شهاب سلطاته الدستورية في اليوم الأخير من ولاية الرئيس كميل شمعون في 20 أيلول 1958.
شهاب ينذر قائد المارينز
وبالمناسبة يروي سمير صنبر أنه عندما نزل المارينز على شواطئ بيروت صيف 1958 في جهوزية عسكرية شاملة لكي يخمدوا ثورة 1958، فوجئوا بالسابحات الفاتنات على شواطئ السان جورج والأوزاعي والسبورتينغ. توقفوا على الرمال ولم يتقدموا بانتظار تعليمات البنتاغون من واشنطن. وصلت رسالة عاجلة إلى أدميرال الأسطول السادس من قائد الجيش اللبناني اللواء فؤاد شهاب يطلب أسرع لقاء ممكن «تجنباً لسفك الدماء» وحصل اللقاء على الواقف عند زاوية «الأيدن روك» آخر الرملة البيضاء.
حضر اللقاء ثلاث ضباط، قال الجنرال بكل هدوء وحزم ما معناه: «نحن، أنت وأنا عسكر، لعلنا نتفاهم، أنا قائد جيش لبنان المستقل، واجباتي حماية حدود الوطن وكرامته وسيادته، أقول لك وبكل مودة للدولة الصديقة الولايات المتحدة الأميركية، مع التقدير الواعي لقدرتها العسكرية، أنني سأكون وأركاني الضباط على استعداد للمواجهة الخاسرة بالطبع دفاعاً عن موقعنا».
فوجئ الأدميرال الأميركي، وأخذ يتطلع حوله مستغرباً ومستمعاً للجنرال الذي استمر يقول: «إذا كان المطلوب الأمن والنظام فنحن نتكفل بذلك، أما إذا كان الهدف الحقيقي مواجهة ثورة العراق، فإن كتاب الجغرافيا سيرشدكم إلى أماكن أقرب، وإذا كان الغرض القضاء على الخطر الشيوعي، فكما تلاحظ ليس هنا قوى شيوعية تحاول الاستيلاء على الحكم». أخذ الأدميرال يحدّق إلى وجه الجنرال الذي استمر ينفس بهدوء «إذا أردتم المساعدة فالأفضل أن ترسلوا مبعوثاً مدنياً يستكشف الوضع ويتفاهم مع السياسيين» ثم أضاف بابتسامة باهتة: «أكلة الجبنة «الفروماجيست» عندنا مستعدون دائماً للتفهم والتفاهم». في لحظات، تحوّل التعجب إلى إعجاب، ورفع الأدميرال يده بالتحية العسكرية وهو يقول مودعاً: «جنرال، لقد تشرفت فعلاً بهذا اللقاء». ثم أمر جنوده بالانسحاب.
شارل حلو بديلاً من عبد العزيز شهاب
حل العام 1964، وكان لبنان يعيش أجواء استحقاقين: الانتخابات النيابية، وانتخابات رئاسة الجمهورية فعلى صعيد الانتخابات النيابية، لم يكن من الصعب على النهجيين أو (الحزب الشهابي)، أي النواب والسياسيين الذي كانوا موالين للرئيس شهاب شخصياً أو مؤيدين لنهجه الوطني والسياسي أو من الزعماء السياسيين التقليديين الذين تعاونوا وشاركوا معه في الحكم، كصبري حمادة، ورشيد كرامي وكمال جنبلاط وغيرهم أن يفوزوا بالمقاعد النيابية ويشكلوا أكثرية نيابية ساحقة. لكن بعض المعارضين الذين سقطوا في الانتخابات النيابية، قالوا أن تدخل المكتب الثاني أدى إلى إسقاطهم، بالإضافة إلى بعض السياسيين الآخرين من الذين أبعدوا عن الحكم في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى الأحزاب العقائدية المعارضة مبدئياً للنهج الشهابي أو المتضايقة من تشديد المكتب الثاني مراقبته عليها، راحت تشكل نواة تكتلات سياسية وتحالفات معارضة للرئيس شهاب ولنهجه. وبالنسبة إلى الرئاسة كانت هناك عوامل تعزز من حظوظ شهاب على التجديد، «فالوضع الأمني والسلام الداخلي كانا ممسوكين، كذلك كانت العواصم العربية والدولية الكبيرة ذات الشأن والتأثير مرتاحة لبقاء الرئيس شهاب على رأس الحكم في لبنان، أو غير معارضة له، لكن المفاجأة التي لم ينتظرها أحد، اللهم إلا بعض المقربين جداً منه، هو فؤاد شهاب نفسه».
لم تستسلم الأكثرية النيابية لرفض الرئيس شهاب للتجديد، إذا ما أن وقّع 79 نائباً على مشروع قانون لتعديل الدستور، حتى أحاله رئيس المجلس إلى الحكومة التي تبنته وألحت مع النواب على الرئيس شهاب لقبوله، آملة في أن يستجيب الرئيس ويقبل بالتجديد، لكن الرئيس شهاب رفض توقيع قانون تعديل الدستور ورده إلى المجلس، وبدا واضحاً للجميع أن تجديد الرئاسة لفؤاد شهاب قد طوي.. وبدأ البحث عن رئيس جديد للجمهورية.
كانت الأسماء المطروحة لخلافة الرئيس فؤاد شهاب كثيرة أبرزها: عبد العزيز شهاب، فؤاد عمون، إلياس الخوري وغيرهم...
وأخيراً استقر الرأي على أن يكون وزير التربية آنذاك شارل حلو رئيساً للجمهورية.
بشكل عام إذا كان قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب قد انتُخب بعد ثورة عام 1958 نتيجة اختيار الرئيس المصري جمال عبد الناصر أولاً، وموافقة واشنطن على ذلك، إلا أن كل المؤشرات كانت تؤكد أن نائب الشوف عبد العزيز شهاب هو الخلف للرئيس شهاب، بعد أن رفض الرئيس شهاب تجديد ولايته، وكان جميع النواب يتصرفون، خصوصاً منذ شهر آذار 1964، مع عبد العزيز شهاب أنه الرئيس البديل. ومع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي آنئذ، كثرت اللقاءات والاجتماعات مع الرئيس الموعود، وفي صيف عام 1964 عُقد اجتماع في المنزل الصيفي للرئيس صبري حمادة في سوق الغرب، حيث رشح النهج الشهابي، عبد العزيز شهاب رسمياً للرئاسة.
ومع اقتراب موعد انتخاب الرئيس الجديد، وفيما كانت الشاليه التي استأجرها عبد العزيز شهاب في مسبح الاكوبولكو في محلة الأوزاعي تعج بالزوار، في نفس الوقت الذي كان منزل المرشح الرئاسي في عاليه يعج بالنواب والأصدقاء القدامى.. والجدد.. كما أيضاً منزل شقيق عبد العزيز، الكولونيل عبد القادر شهاب يغص بدوره بالمريدين والزوار.
فجأة.. ومع اقتراب موعد الاستحقاق، رنّ الهاتف في منزل الرئيس المحتمل في عاليه، وبدا التجهم على وجه من رد على المكالمة.. وما هي إلا لحظات حتى بدأ النواب ينفضون من منزل عبد العزيز شهاب، وبدأ عدد الزوار في عاليه والأوزاعي بالتناقص، ليصبح المكانان خاويين تماماً.
في هذا الوقت، كان فندق الكارلتون يشهد اجتماعاً موسّعاً للنواب النهجيين الذين نزلت إليهم كلمة السر الشهابية أو «الوحي»: وزير التربية شارل حلو هو رئيسكم.. وانتخب حلو فعلاً بعد تعمد «وحي» فؤاد شهاب بتزكية ناصرية - فاتيكانية.
(يتبع)