إذا كان لبنان قد شهد الكثير من الانتفاضات والأحداث التي غيّرت مجرى التطورات في البلاد، كما حصل في منتصف الولاية المجددة للرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري عام 1952، وكما جرى في أواخر عهد كميل شمعون 1958، وغيرهما من الأحداث، إلا انه أيضا شهد أربع محاولات إنقلابية لم يكتب لها النجاح.
المحاولة الانقلابية الأولى
مع إعلان نتائج الانتخابات الفرعية لملء 3 مقاعد نيابية شاغرة في 23 نيسان 1944، اثنان في دائرة جبل لبنان وواحد في الشمال فاز به يوسف كرم، وتعيين أول جلسة للمجلس بعد هذه الانتخابات في 27 نيسان، كان هناك محاولة قام بها الفرنسيون للنيل من استقلال لبنان، فكان أن اتخذت الحكومة عدة تدابير منها حصر التظاهرات، وعدم استعمال السلاح من قبل قوى الأمن إلا في حالة التعدي عليها، ومنع الدخول إلى المجلس إلا لحاملي البطاقات، كما وزع رجال الدرك وشرطة المجلس النيابي على جوانب المجلس النيابي لأن الجيش والأمن العام كانا ما يزالان بيد الفرنسيين.
في ذلك اليوم، دخلت بيروت سيارات متعددة من جسر بيروت مع سيارة النائب المنتخب يوسف كرم، متجهة نحو ساحة الشهداء، فتوجه المتظاهرون وهم يحملون العلم اللبناني القديم أي العلم الفرنسي تتوسطه الأرزة، نحو مجلس النواب مخترقين الحواجز حتى وصلوا إلى ساحته، وهنا تقدّم أحد المتظاهرين محاولاً رفع العلم الفرنسي على باب المجلس النيابي.
ويقول رئيس المجلس النيابي الاستقلالي الأول صبري حمادة: «شاءت بلدة زغرتا وما جاورها مرافقة نائبها إلى المجلس، وسط مهرجان كبير، فاندسّ بين صفوفه عدد من المشبوهين المكلفين من قبل الفرنسيين بإفتعال حوادث الشغب للإفادة منها عند بلوغ الموكب ساحة النجمة، والتسلل إلى المجلس بغية احتلاله، وحين بلغتنا بطريقة ما أخبار ذلك الزحف، اتصلت بفوزي طرابلسي وكان قائداً للدرك، فتعذّر عليه مدّنا بالقوة اللازمة مما اضطرني للاكتفاء بالعدد الضئيل مما كان لدينا من الشرطيين واللجوء إلى بندقية وضعتها في حجري وجلست أترقّب.. وعند وصول الموكب إلى ساحة النجمة صعد جندي فرنسي، اقتلع العلم اللبناني واستبدله بعلم بلاده، فأطلق عليه العريف ضاهر مشيك، وليس نعيم مغبغب رصاصة قتلته في الحال.. ونسبنا إلى نعيم مغبغب قتل الجندي الفرنسي لكي لا يعاقب الفرنسيون ضاهر مشيك، وكانوا ما يزالون يسيطرون على قيادة الدرك. وعند سقوط الفرنسي تحت العلم أخذ رفاقه يطلقون علينا الرصاص من بناية البرق والبريد القديمة.. ولم نسمح بدخول أحد ممن رافقوا يوسف كرم فدخل إلى المجلس بمفرده، وبقي منظمو التسلل خارجه.
ويروي قائد شرطة بيروت الأسبق أبو علي قليلات: أن المقاومين من داخل المجلس اشتدّ ضغطهم على المهاجمين مما اضطر المقتحمين إلى الانسحاب وإني لا أنسى أن الرئيس صبري حمادة كان يحمل بارودة معدّلة وهو يقاوم، وبشكل عام فقد رد المعتدون على أعقابهم وفشلت المحاولة الانقلابية الأولى.
المحاولة الثانية
أما محاولة الانقلاب العسكري الأولى فعليا فقد خطط لها في العام 1958 مع انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، حيث نشرت مجلة «بيروت المساء» في العدد 24 بتاريخ 26 نيسان 1974 تفاصيل هذه المحاولة، فقالت: يروي العميد أنطوان سعد رئيس المكتب الثاني في عهد الرئيس فؤاد شهاب، أن النائب الراحل فؤاد لحود كان حينها عقيداً في الجيش اللبناني عقد اجتماعاً مع الضباط السوريين في موقع يسمّى «الخربة» وطلب مساندته في إجراء انقلاب عسكري، يتم بعده تعيين شقيقه النائب الراحل سليم رئيساً للجمهورية، ويتولى هو (أي العقيد فؤاد) قيادة الجيش.
وفي هذا اللقاء قال العميد سعد: تعهد العقيد لحود بأن يعمل العهد الجديد على تدشين علاقاته بسورية وبأن يصل في ذلك إلى أقصى الحدود.
ويروي العميد سعد أنه عرف بذلك الاجتماع من الرئيس صائب سلام وبما دار خلاله فتنبّه للأمر، ولكن كما يقول «ساءني ألا يطلعني أصدقاؤنا السوريون على نوايا العقيد لحود، وذات يوم فوجئت بالسيد برهان أدهم يصل إلى مكتبي وكان من عادتي أن ألقاه معانقاً ومقبّلاً، ولكنني لم أفعل يومها بل استقبلته ببرود ظاهر، فاستغرب ذلك وسألني: شو القصة؟
قلت: عم تسأل شو القصة؟ روح اسأل العقيد فؤاد لحود.. هيك بيصير.
ومضى سعد قائلاً: وسكت أدهم للحظات ثم قال لن أحكي شيئاً هنا.. وأصرّ على أن يكون كلامي معك عند الرئيس شهاب.. وبعد إلحاح منه أجريت اتصالاً هاتفياً بالرئيس شهاب، توجهنا بعده، أدهم وأنا، لمقابلته، وما أن وصلنا حتى قال أدهم، اسأل سعد لماذا لم يستقبلني كعادته؟
استغرب الرئيس شهاب، وكان قد انتخب رئيساً للجمهورية، ولم يتسلم سلطاته بعد، أن ينشأ بيننا خلاف، فسألني: شو الحكاية، وعندما شرحتها له، ولم أكن قبل ذلك قد أطلعته عليها، قال أدهم: لقد جئت اليوم لأقدّم للرئيس ملفاً كاملاً عن الموضوع وهذا الملف في سيارتي وسأعود به حالاً.
غاب أدهم للحظات وعاد بالملف ليلقيه على مكتب الرئيس شهاب، قائلاً: انتظرنا حتى تستكمل المعلومات اللازمة وحينما تم ذلك جئنا لإطلاعكم عليها.
ويروي العميد سعد أن الرئيس فؤاد شهاب فوجئ تماماً بكل ذلك، وقام يتمشى إياباً وذهاباً في مكتبه كعادته حين يكون غاضباً، ثم طلب مني أن أتابع الموضوع باهتمام.
بعد ذلك عرفت من السوريين، كما يؤكد سعد، أن اجتماعاً آخر سيعقد في دمشق بين لحود وبعض الضباط السوريين لمتابعة بحث الموضوع، فأرسلت ثلاثة ضباط عملوا بالتفاهم مع السوريين على تسجيل كامل الحديث الذي دار خلال الاجتماع.
وكانت هذه التسجيلات دليلاً لا يدحض ضد العقيد فؤاد لحود..
وبعد ذلك كان ما كان ومنها تسريحه من الخدمة العسكرية.
المحاولة الثالثة
المحاولة الانقلابية الثالثة التي شهدها لبنان، قام بها الحزب القومي السوري الاجتماعي في 31 كانون الأول 1961، لكنها أخفقت بعد ساعات، فكان ذلك سببا رئيسيا لتعزيز دور ومكانة الشعبة الثانية في الحياة السياسية، كما يؤكد يوسف سالم في كتابه «50 سنة مع الناس».
وفي السياق، يقول النائب الراحل اللواء سامي الخطيب، وهو كان أحد الضباط البارزين في حينه في الشعبة الثانية «أنه بعد ستة أشهر من بدء عملي في الشعبة الثانية، تعرّفت إلى ضابط سوري مسرّح من الجيش ويقيم في لبنان هرباً من الملاحقات التي كان ينفذها النظام السوري بحق المنتمين إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، وهذا الضابط كان برتبة مقدم، وكان من الحزب، واسمه فضل الله أبو منصور ولجأ إلى لبنان عقب اغتيال العقيد البعثي عدنان المالكي في دمشق. وخلال اللقاء به طلب مني تسوية وضع إقامته في لبنان شرعياً، فعملت على تأمين ذلك له وراعينا وضعه بتقديم مساعدة مالية له غير منتظمة. وبعدها كنت ألتقي به بين فترة وأخرى. وفي أحد الأيام اتصل بي وأعلمني بأن «الحزب السوري القومي الاجتماعي» يحضّر إلى تنفيذ إنقلاب عسكري، كما عرفنا معلومات أخرى عن الانقلاب المنوي تنفيذه من خلال المخبرين الذين كانوا يعملون معنا، وهم كانوا من المنتمين إلى الحزب، ومنهم عرفنا أن ضباطاً في الجيش سيشاركون في الانقلاب، ولكننا لم نعرف بالتحديد من هم هؤلاء، كما عرفنا أن كتيبة مصفحات ستشارك في العملية، وتبيّن فيما بعد أن هذه الكتيبة هي بأمرة النقيب فؤاد عوض وكانت مهمتها تطويق وزارة الدفاع».
بأي حال ، فإن هذه المحاولة التي نجحت في الوصول الى وزارة الدفاع واعتقال ضباط قبل أن ينجح ضباط الجيش والمكتب الثاني في افشالها، تركت في نفس الرئيس فؤاد شهاب أثرا عميقا، كما ولدت في نفوس الضباط شعورا بمسؤولية سياسية جديدة، ألا وهي حماية النظام والجيش والعهد عن كثب والسهر اليومي على مجريات السياسة وتحركات الأحزاب والسياسيين، أي المراقبة وجمع المعلومات عن الشخصيات والأحزاب المعارضين، والاعتماد على المخبرين والتدخل في الانتخابات، مما أثار غضب المعارضين وتوحّدهم ضد العهد.
يُذكر ان الحزب السوري القومي الاجتماعي كان قد قام بانتفاضة مسلحة عام 1949، إلاّ أنّ محاولتهم الأولى هذه باءت بالفشل، وانتهت بحلّ الحزب وإعدام سبعة من أعضائه، بمن فيهم الزعيم أنطون سعادة، وما لبثت حكومة رياض الصلح، التي اتخذت تدابير صارمة، ومبالغٌ فيها، خصوصا الاعدامات التي نُفّذت بسرعة، كما أنها عمدت إلى حلّ حزبي الكتائب والنجادة وغيرها من المنظمات شبه العسكرية في البلاد، ممّا دفع الجميع للوقوف في صفوف معارضة حكم الرئيس بشارة الخوري.
المحاولة الرابعة
وسط الفوضى الشاملة التي أخذ يشهدها لبنان في ظل الحرب الأهلية، واتساع القلق الشعبي على الحياة وعلى الكيان وعدم تجاوب رئيس الجمهورية مع المطالب بالاستقالة، فضلاً عن قصف مقر رئاسة الجمهورية بقذائف صاروخية، لإجبار الرئيس فرنجية على الرحيل، فوجئ اللبنانيون الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر النشرة الإخبارية من التلفزيون في الثامنة والنصف مساء، مساء 11 آذار 1976، علَّها تحمل إليهم ما يهدّئ روعهم، وفيما كان المذيع ينفي ما أُشيع عن الاستقالات الثلاث (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، ووزير الداخلية) ويعرض مشاهد لخروج أعضاء وفد سوري برئاسة عبد الحليم خدَّام بعد اجتماع في القصر مع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الرافض الاستقالة. فجأة يظهر على الشاشة دون سابق إشارة ضابط بزيّه العسكري وكامل أوسمته وبدأ بعد ثوانٍ من الارتباك يتلو بياناً كان أشبه بدوي قنبلة. كان هذا الضابط هو العميد أول الركن عزيز الأحدب ابن مدينة طرابلس وقائد موقع بيروت العسكري. وصل مباغتاً إلى مبنى محطة التلفزيون توقيتاً مع نشرة الأخبار. قرأ البيان الذي أعاد إلى الأذهان صيغة «البلاغ رقم واحد» للانقلابات العسكرية التي ازدهرت في الخمسينات والستينات في الدول العربية.
لقد لاقت حركة العميد الأحدب الانقلابية، تأييداً من أوساط سياسية ومن عدد من الضباط في أيامها الأولى، في حين التزم قائد الجيش حنا سعيد بالصمت. لم يحظَ الانقلاب بتأييد القطع العسكرية المقاتلة التي انضم أكثرها إلى أحمد الخطيب. بالمقابل قامت ميليشيات الجبهة اللبنانية باحتلال ثكنة الفياضية يوم 12 آذار 1976، فيما أعلن العقيد أنطوان بركات ابن زغرتا ولاءه للرئيس سليمان فرنجية منذ 12 آذار وأعلن تأسيس ما سُميّ بـ«جيش الشرعية» ومقره ثكنة الفياضية.
وفي وسط هذه الأحداث تم تشكيل تجمع عسكريي ثكنة صربا بقيادة العقيد أنطوان لحد، الذي ترك قيادة البقاع، وتجمع عسكريي مسيحي زحلة الذي كان بقيادة المقدم إبراهيم طنوس (قائد الجيش فيما بعد) والرائد طارق نجيم، والملازم أول يوسف الطحان. وجاء البلاغ رقم واحد للعميد عزيز الأحدب إنقاذاً لوحدة الجيش، وإعادة اللحمة إلى العسكريين، وإنقاذاً للوضع المتدهور في البلاد، لكن هذه الحركة انتهت الى لا شيء واستمر التدهور في البلاد.