بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تشرين الأول 2019 06:10ص أحداث البداوي مؤشِّر خطير وشبح «العرقنة» حاضر بسبب تقاطعات المشهدين

قائد الفوج التابع للجيش محمولاً على اكتاف شباب الإنتفاضة بعد معالجة حادث البداوي قائد الفوج التابع للجيش محمولاً على اكتاف شباب الإنتفاضة بعد معالجة حادث البداوي
حجم الخط
مع إطلالة كل يوم جديد تكتب ثورة الشعب اللبناني صفحة جديدة من تاريخ هذا البلد، ومع مرور كلّ ساعة تكتب السلطة سطراً جديداً في سلسلة إرباكاتها واحباطاتها. وما حصل في منطقة البداوي مساء السبت (وعلى الهواء مباشرة)، خطير.. وخطير جداً، إذ بدا وكأنه استنساخ لتجربة «العرقنة» أو «السورنة» في مواجهة الناس، لكن من دون حشد شعبي ينكّل على أسسس طائفية ومذهبية أو براميل متفجرة، فما يسري على لبنان ينسحب على العراق، لما بين هذين البلدين من تقاطعات وتعقيدات وأمر واقع مفروض، لناحية الساسة الفاسدين أو ميليشيات الأمر الواقع.

على خطى أنظمة بعض الدول العربية التي جرفتها سيول غضب الشعب، من دون تعديل أو تغيير، تسعى السلطة في لبنان إلى التعامل بشدة لتشتيت غَضبة الشعب، أو بالحدّ الأدنى لاستيعابها تمهيداً لخنقها، تارة بالتهويل من الفراغ، أو باستعمال الأجهزة الأمنية والعسكرية ضد المتظاهرين لحرف الحراك عن أهدافه واستحضار منطق «فرّق تسد»، أو، تارة أخرى، بغض الطرف عن ممارسات التشبيح والبلطجة ضدّ المتظاهرين المدنيين السلميين، حتى الآن لم تفلح هذه المساعي لكن للمواجهات تتمة حتمية، في الساحات والشوارع والمناطق، وفي ابتكار أساليب جديدة للضغط والاعتراض وفي التخطيط لجدولة المرحلة المقبلة.

استقالة الحكومة قريبة!

إن صحّ ما يتردد منذ أيام عن أن الوزير جبران باسيل يضغط على قيادة الجيش وعلى بعض الأجهزة الأمنية لفتح الطرقات بالقوة، (وهو ما حصل في البداوي)، فهذا نقل لمستوى مواجهة الثورة إلى مستويات جديدة. ثمة نوع من الاصرار على إدخال البلاد بفتنة قد تنزلق نحو صدام كبير؛ فمن جهة خطاب سياسي انقسامي، تواكبه، من جهة ثانية، ممارسة سياسية انقسامية تسعى إلى استغلال الجيش والقضاء والأجهزة، وكِلا الأمرين (مع فائض الفساد والشعور بالاستقواء وشبح الإفلاس وتهميش القانون) يؤدي لحرب أهلية أكيدة، ولا يمكن الاستخفاف بهذه الأمور. هنا يبدو التمسك بمطلب استقالة الحكومة، بالحدّ الأدنى، ضرورياً؛ كسراً للخطوط الحمر التي رُسمت أمام ذلك، وتحييداً للرؤوس الحامية والمستفزّة، واحتراماً لإرادة الشعب. بعد ذلك يمكن الانتقال للضغط باتجاه تنفيذ المطالب الأخرى، خصوصاً مع معلومات تتردد عن استقالة قريبة جداً للحكومة بعدما نضجت فكرة البديل، كتشكيل حكومة مصغرة، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة بقانون انتخابي عصري، وفتح ملفات الفساد وغيرها وصولاً إلى أبسط مطالب الناس. 

تحدّيان قبل إعادة تكوين السلطة

لا مناص أمام السلطة إلا أن تستمع لصوت الناس، إذ ليس مقبولاً أن يتأخر أيّ عاقل عن تفهّم تطور كبير كالذي يحصل منذ قرابة أسبوعين، وتحديداً في جزئه المتعلق بعدم الثقة بالمنظومة الحاكمة، هذا عدا عن إدارة الشأن العام بذهنية المناكفات والمحاصصات والسمسرات، وصفر انجازات وآخر مثال مشهد المجاري التي فاضت قبل يومين في أكثر من منطقة بعد دقائق قليلة من هطول المطر، وفيه، مع ما حصل منذ شهر، خير دليل على وقوع البلد بين حدّي الحريق والغريق بسبب الإهمال.

للمرة الواحدة بعد الألف، مطالب الناس ليست رفاهية أو ترفاً؛ الخدمات الأساسية، والحريات، ومكافحة نظام المحاصصة والطائفية والفساد هي مطالب بديهية في أي دولة في العالم تجاه مواطنيها. لكن في لبنان، وبسبب الاستلاب الكامل من قبل الطبقة السياسية الحاكمة على إدارة الدولة ومؤسساتها، يبدو هذا الأمر شبه مستحيل، وكل ذلك يقود للقول إن عدم تحقيق مكاسب جدية وجوهرية في سبيل معالجة وجع الناس واحترام مطالبها بالتغيير، سواء بسبب التركيبات الطائفية أو السلطوية أو بسبب سطوة المليشيات، سيؤدي إلى الانزلاق بشكل حقيقي نحو سقوط النظام كاملاً – لا الحكومة والمجلس فحسب – وخراب البلاد على من فيها.

أمام رهانات التعب واليأس، لقد راكمت الثورة حتى الآن انجازات عدة، تتمثل بـ: الاستمرارية، الزخم، الإصرار، وفضح اتهامات ومساعي شيطنتها وتسييسها، وكذلك إجبار أركان السلطة على تقديم خطة إصلاحية (بصرف النظر عن إمكانية تطبيقها)، والتلويح بتقديم تنازلات تتصل بتعديل حكومي مرتقب. وفوق كل ذلك الفرح المصاحب للثورة كشرط لإظهار سلميتها وحضاريتها وجمالها، وهو فرحُ الامتلاء بالحرية (من التأطير السياسي الجامد)، والتحرر (من الصور المزيفة التي سيطرت على عقول كثيرين، أفراداً وجماعات تجاه بعضهم البعض، بسبب الخطابات الشعبوية والعنصرية والتحريضية)، وهنا تبرز أهمية التنوع الذي وَسَمَ الثورة منذ يومها الأول من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال مروراً بالساحل والجبل والبقاع، وانتهاء في قلب العاصمة.

وأمام الحدث التاريخي الحاصل في لبنان منذ 17 تشرين، يبقى أن تحمي الثورة نفسها من خلال مواجهة تحديين رئيسيين، أولاً، صون الثورة عن الانتهازيين والطفيليين والطامعين والطامحين على غرار سابقة من التاريخ الطري جداً، وثانياً تأطير رزمة مطالب تتجاوز مسألة استقالة الحكومة التي يبدو أنها ستكون قريبة، وصولاً إلى كافة المطالب الأخرى. لقد أودع الشعب آلامه وأمانيه وغضبه وطموحاته في قلب هذه الثورة، ولا يليق أن يتم اغتيالها أو استغلالها أو تجاوزها أو الالتفاف عليها.

مطالب شابات وشباب لبنان بالحرية والكرامة والحكم النظيف والخالي من الفساد واحترام المواطنة والحقوق المدنية كل ذلك ينذر بأفق جديد للبنان ومستقبل أبنائه، ويحتاج صبراً وتبصّراً ورؤيوية؛ 

و«مـا نيـلُ المـطــالب بـالتمـنـي .. ولكــن تؤخذ الدنـيا غـلابـا

وَما استَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ .. إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُمْ رِكابا».