أيّام... وكلها حبلى بالأحداث...
مرّت أشهر حتى اليوم، ولم تنهض بي همّتي لأسجّل حرفاً! ولا أدري لماذا جئت الآن، بعد عودتي متعباً إلى جنيف، أجلس وفي آخر السهرة لأخطّ هذا؟
ذهبت يوم الانتخاب قبيل الظهر إلى بلدة شتورة مستقلّاً الطائرة الخاصّة التي وفّرها لي «رفيق الحريري»، كما في مثل هذه المناسبة من قبل، وأمضيت النهار هناك، وبنفس الواسطة عدت مساء النهار نفسه. فقد اشتركت مع الزملاء النوّاب في انتخاب «إلياس الهراوي» رئيساً للجمهورية، على أثر اغتيال «رينيه معوّض»، الذي راح ضحيةً لجريمة اغتيال نكراء بشعة في يوم ذكرى الاستقلال في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989.
فهل يكون هذا اليوم نهاية المطاف في «مسيرة السلام» التي رافقتني ورافقتها منذ سنة ونيّف، يوم وجّهت ندائي الأول المفتوح إلى جميع القادة المسؤولين العرب، وأتبعته باتّصالات شخصية كتابية وهاتفية دون كلل، وكان ذلك يوم اشتدّ الخطب بعد فراغ رئاسة الجمهورية وخشيتي القويّة على انتهاء كيان لبنان إلى التفتيت والزوال، بعد كلّ ما انتابه من فواجع ومآسٍ يعزّ الصمود تجاهها على الجبال الراسخة؟
ثمّ قدّر الله واجتمع العرب أخيراً في قمّة عربية شاملة في الدار البيضاء في أيّار/ مايو الماضي أي منذ ما يزيد على سبعة أشهر.
وهي أحداث دُوّنت في جميع الصحف، دون أن أدخل في جوهر الموضوع كما كنت أنوي، فأنا متعب اليوم كما كنت أعود دائماً متعباً، بل كما أرهقني التعب وأنا في الطائف لدرجة الخطر التي كان يخشاها ويحذّر منها طبيبي الخاصّ الدكتور «حسن طبّارة» ورفاقه الأطبّاء الأميركان.
لكنّي وقد ذهبت وأنا مصمّم على تحدّي القدر وعدم الانصياع لكلّ الضغوط، فقد أتممت ما ذهبت من أجله والحمد للّه فأرضيت ربّي وضميري.
لقد غرقت بما أشعر بأنّه يبدو تبجّحاً، ولكنّ ما يشفع لي في ذلك أنّني أخاطب دفتري هذا ولا يسمع ذلك أحد!
فلعلّي أتمكّن من متابعة الحديث في وقتٍ آخر.
نعم، لا شكّ في أنّ اغتيال «معوّض» المفاجئ، في يوم ذكرى الاستقلال بالذات، ولّد صدمة لا توصف في لبنان، وفي العالم العربي، بل ولا أبالغ، وفي أرجاء العالم الواسع، وكلّ هؤلاء كانوا قد استبشروا خيراً بانتخابه في نهاية مسيرة السلام التي وُضعت لها الأسس المكتوبة في «وثيقة الطائف» التاريخية. وبالإضافة إلى هذا الاستبشار، فقد حظي انتخابه بتأييد واسع وجماعي من أكثرية اللبنانيين، والعرب، والدول الكبيرة والصغيرة، ما عدا طبعاً العماد «عون» ومَن حوله مِن مؤيّدين كانوا قد بدأوا يخسرون بصورة متزايدة عطف العالم، بل كانوا يزيدون في نقمتهم عليهم لتصرّفهم غير الشرعي وغير المعقول، بل الأرعن والمجنون والمجرم، ولا سيّما في ما قاموا به من عدوان مباشر وشنيع على مقام بطريركية الموارنة، وعلى شخص البطريرك بالذات الذي ناله من الإهانة ما لم يكن يتصوّره أحدٌ من الناس ممّن يعرفون ما للبطريرك والبطريركية من مكانة في لبنان، ولا سيّما عند المسيحيين والموارنة بالذات، فقد انتزعوه من فراشه وأوسعوه ضرباً وشتماً مقذعاً له، وحتى للبابا، وأنزلوا صورهما ووضعوا مكانها صور «عون» وجعلوه يركع ويقبّل صورة «عون»!!
وهذا العمل قد أثار، كما قلت، اشمئزازاً واسعاً ونقمة عارمة، ولكنّ الغريب أنّه حظي بتصريح مؤيّد من «عون» نفسه، الذي يسعى الى حشد الكثير من الموارنة للالتفاف حوله.
قلت، كانت الصدمة شديدة عند انتشار خبر اغتيال «معوّض»، وكنت طبعاً ممّن كان وقع الصدمة عليهم شديداً ومذهلاً، حتى إنّني لم أتمكّن من الإجابة على ما توالى عليّ من أسئلة صحافية وتلفزيونية وغيرها سوى بكلمات ضئيلة مثل: «الكارثة كبيرة وكبيرة جداً ولا حول ولا قوّة إلّا بالله...». ولم يفتني مع هذا أن أضيف: «فعلينا ألّا نقف مكتوفي الأيدي تجاه المصيبة الكبرى، بل علينا كلبنانيين أن نتضامن ونتعاون، وإنّي لعلى ثقة بأنّ الإخوان العرب سيكونون وراءنا بنفس العزم الذي عرفناه إلى اليوم، وكذلك القوى العالمية».
وفي الواقع، فإنّ الصدمة كانت كبيرة جداً لما كنّا نعلّق من آمال على «معوّض»، ولأنّنا اعتبرنا أنّنا نجحنا في انتخابه بعد ما كان من فراغ في رئاسة الجمهورية لما يزيد على السنة، وهو ولا شكّ كان أصلح من اخترنا في هذه المرحلة، بالنسبة لنضوجه وطول خبرته السياسية، وما اتّصف به من شخصية مرموقة ومحبّبة، وما عُرف عنه من رجولة تتّصف بالاعتدال والاتّجاه إلى التسويات المعقولة مع كلّ من يستجيب لها، وما كان أروع خطابه عشيّة اغتياله، بمناسبة ذكرى الاستقلال، إذ اتّخذ موقف الحزم والشدّة، بعد أن يئس في مسعى دام سبعة عشر يوماً في محاولة تدبير الأمور مع العماد «عون» في عصيانه في مركز رئاسة الجمهورية في بعبدا، وهو يسيطر على ما بقي لديه من جيش وينكر كلّ شرعية غير شرعيته المزعومة.
وبعد أن صحوت نوعاً ما من الصدمة الشديدة التي ألمّت بي، أخذت تتوالى عليّ الاتّصالات من أرباب الإعلام، وعلى كلّ أنواعه، من الشرق والغرب والبعيد والقريب، فرحت أدلي بتصاريح طويلة، ومتشابهة طبعاً، وإن تكن في قوالب متعدّدة، حتى أواخر الليل، ما جعلني أقضي ما بقي منه بقلقٍ يحرمني النوم، وهكذا اليوم الذي تلا يوم الحادث حتى أُنهكت حقاً، وكان كلّ همّي أن أؤكّد دعوتي إلى ضرورة التئام المجلس النيابي فوراً لانتخاب خلفٍ للرئيس مع حكومة شرعية تقوم بما كان هو، أي «معوض»، مقدماً عليه، وأرسلت بطلبي هذا مع «تمّام» إلى رئيس المجلس «حسين الحسيني».
ولا أقول إنّه بناءً على مطالبتي وإلحاحي وحده جرى ذلك والحمد للّه، وبالسرعة القصوى المطلوبة، فقد كنت أكرّر في تصاريحي الواسعة أنّنا يجب أن نجتمع قبل ساعة لا بعد ساعة، ولا أقول قبل يوم لا بعد يوم.
وهكذا كان، ولم أكتفِ بتصاريحي التي تلقفها العالم فقط، بل حرصت على القيام بكلّ مسعى لإنجاح ذلك مع العديد من النوّاب ومع المسؤولين العرب.
وعندما تلطّف الملك «فهد» واتّصل يعزّيني سرّني ذلك جداً، وتشجّعت كثيراً بما لقيته منه، بالإضافة إلى العاطفة الكريمة، من تأكيد جازم لمتابعة دعم المسيرة، وإنّه اتّفق على ذلك مع أخويه الملك «الحسن» و«الشاذلي بن جديد».
وكالعادة قدّم لي الصديق «رفيق الحريري» طائرته الخاصّة، فذهبت رغم كلّ ما أنا فيه من إرهاق، واشتركت في انتخاب الرئيس الجديد، وهو كما سمّيته وسمّاه الجميع قبِل أن يكون «فدائياً» بالمعنى الصحيح! و«إلياس الهراوي» صديق قديم، وهو يردّد دائماً أنّه من «مدرسة صائب سلام» وحتى بالأمس، فقد ردّد ذلك أمام جمع من النوّاب بعد انتخابه، وأملي به كبير وخصوصاً بعد الخطاب الحازم والجازم الذي ألقاه في المجلس النيابي بعد حلف اليمين الدستورية.
وعلى الرغم من ملاحظاتي الكثيرة وما لي من مآخذ على الحكومة، وكيفية تأليفها، وإدخال أشخاص واستبعاد أشخاص من رفاقي إليها، ما يشكّل إساءة واضحة لهم ولي شخصياً، فقد تجاوزت ذلك كالعادة مقدّراً الظروف كلّها، والاتّجاه السوري في كلّ ذلك، وذهبت مع رفاقي إلى الرئيس «الحصّ» وهنّأته وشجّعته.
وذلك لأنّ همّي الأول كان أن نحزم أمرنا ونجتاز المرحلة الدقيقة بأقصى سرعة ممكنة. وهذا ما كان له وقعه الكبير في لبنان، وفي أرجاء العالم، عربياً ودولياً، فتوالت على الفور التهاني، والاعترافات بالرئيس الجديد، وبتأكيد التأييد.
فالحمد للّه، والأمل بالله، وبهذا الشعب الطيّب الذي لبّى نوّابه نداء الواجب، أولاً في الطائف ثمّ في القليعات، وأمس في شتورة، رغم ما كان يُحاك لمنع ذلك، من ضغوط وأسباب (ربّما وجيهة) وأخطار لا يدركها إلّا من يقع تحت تأثيرها.
أقول مرّةً أخرى الحمد للّه، وأردّد أنّني مؤمن وشعاري «إنّ المؤمن لا ييأس». فقد أنقذ الله لبنان الحبيب، وأنقذ العرب، وكلّ بلد عربي معه، لما كان قد يتولّد من أخطار لا يمكن تحديد مداها، إذا أصيب لبنان نهائياً لا سمح الله!
ولا أدري إن كنت أجد لي عذراً في هذا الخطّ المشوّش، والفكر المشوّش!!!