بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 آب 2022 12:01ص أسرار الانتخابات الرئاسية في مذكرات صائب سلام (٤)

خضتُ معركة ضارية ضد التجديد لشهاب وانقطعت العلاقة مع السفير المصري غالب.. حلو رئيساً بتأييد من المكتب الثاني أصابني بهزيمة سياسية وشخصية

حجم الخط
الإبحار مع مذكرات الرئيس صائب سلام هو في الواقع غوص في ثنايا تاريخ دولة الاستقلال، وما ميّزها من نجاحات باهرة حيناً، وما صادفها من كبوات موجعة وتحديات صارخة أحياناً. ذلك أن هذه المذكرات خرجت عن الصيغة التقليدية للسيرة الذاتية، وإهتم صاحبها بتأريخ لحظة الحدث أكثر من تركيزه على الرأي الشخصي أو الترويج لموقف سياسي، وهي بذلك تبقى مرجعا للباحث، وزادا للسياسي الصاعد، ومصدر إلهام وخبرة للأجيال الناشئة.
من «لبنان واحد لا لبنانان»، في زمن الإنقسامات في الخمسينيات، إلى صيغة «التفهم والتفاهم» في زمن الصراعات وإنقطاع الحوارات في السبعينيات والثمانينيات، إلى الحرص على «لبنان الواحد بجناحيه المسلم والمسيحي» في زمن الإنتخابات العرجاء في مطلع التسعينيات. محطات لها تاريخ في مسار الوحدة الوطنية التي كان صائب سلام أبرز رموزها على مدى نصف قرن ونيّف.
ليس سهلاً الإحاطة، بهذه العجالة، بسفرٍ من ثلاثة أجزاء ويضم ألف وسبعمائة صفحة، فكان لا بد من إختيار محور واحد يتناسب مع الأحداث التي يعيشها لبنان حالياً، وهل ثمة أنسب من محور الإنتخابات الرئاسية، والبلد اليوم يعيش أجواء الإستحقاق الرئاسي في مرحلة من الإضطراب وعدم الإستقرار.
الحلقات ستغطي تباعاً أسرار الإنتخابات الرئاسية من إستقالة الشيخ بشارة الخوري إلى إنتخابات الرئيس إلياس الهراوي، وما تخللها من مناورات وصفقات وكرّ وفرّ هي من سمات المعارك الإنتخابية في لبنان. 

الانتخابات الرئاسية ومعركة التجديد

في ربيع العام 1964 أجريت انتخابات نيابية جديدة.
خلال تلك الانتخابات، وقف سفير الجمهورية العربية المتّحدة «عبد الحميد غالب» وكافة أجهزة سفارته ظاهرياً على الحياد... حيث إنّ مساعدتهم الفاضحة لكلّ من المرشّحين «معين حمود» و«سعيد فريحة»، جعلت الجميع يعدّونهم في الخندق المواجه لنا.
بعد الانتخابات مباشرة، برزتْ بروزاً شديداً قضيّة التجديد للرئيس «فؤاد شهاب». والحال أنّ الجميع كان يتوقّع ذلك بعد حلّ المجلس قبل أوانه لإفساح المجال أمام تعديل الدستور في دورة عادية. وفي تلك الانتخابات، كان سقوط «ريمون إدّه» و«كميل شمعون» الحدث الأبرز، لأنّه خلق جوّاً مسيحياً حامياً في طول لبنان وعرضه، وزاد من حدّته وقوف «عبد الحميد غالب» مع «رشيد كرامي» و«كمال جنبلاط» وغيرهما تأييداً للتجديد الذي وقف الشارع المسيحي ضدّه. يومها، كان من المتوقع أن يحدث انشقاق وطني خطير، ولكن - كما أجمع المراقبون يومها - جاء موقفي، وحده، لينقذ البلاد من وضعٍ كان يبدو فيه أنّ الاستقطاب والتكتّل يقسم كلّ المسيحيين ضدّ كلّ المسلمين، فأنا وقفتُ موقفاً حكيماً: «لا مع التجديد ولا ضدّه»... وكان ذلك هو موقفي العلنيّ، لأنّ الجميع كان يعلم أنّي ضدّ التجديد. وهذا الموقف الحقيقي أدّى، كما يمكن أن يُتوقّع، إلى تدهور العلاقات بيني وبين «عبد الحميد غالب»، إلى درجة القطيعة الكاملة بيننا. ولقد زاد من غضب «غالب» أنّ التطوّرات السياسية الأخيرة جعلت الكثيرين ينظرون إليه على أنّه فشل في مهمّته. وأنا كنت، على أيّ حال، أؤمن دائماً بأنّ ما كان يقوم به «عبد الحميد غالب» في لبنان لا ينبع بتفاصيله من توجّهات رسمية قاهرية، بل إنّ القاهرة كانت تجهل تفاصيل انغماسه العلنيّ الأهوج في معركة التجديد لـ«فؤاد شهاب». وقد زاد من قناعتي هذه أنّ القاهرة اختارتْ في ذلك الوقت بالذات أن تستدعي «عبد الحميد غالب»، حيث قابل الرئيس «عبد الناصر»، ثمّ عاد ترافقه شائعات تقول - وربّما كان هذا صحيحاً - أنّ القاهرة أنّبتْه على مواقفه وعلى الفشل الذي سبّبه لسياستها في لبنان.
بعد عودته، قابله «نسيم مجدلاني» ففهم منه أنّه لم يعد يأمل التجديد ولذلك لن يسعى إليه بعد اليوم، لكنّه مع ذلك ألحّ على «نسيم مجدلاني» أن يصوّت للتجديد إذا عاد الأمر وأُخضع للاقتراح في المجلس، حتى لو كان متأكّداً من أنّه لن يحصل. هنا سأله «نسيم» عمّا إن كان تحدّث إلى الرئيس «عبد الناصر» بصدد ترشيح «سليمان فرنجية»، وهو ما كان هذا الأخير نفسه قد طلبه منه، فقال «غالب» لـ«نسيم» إنّ الرئيس «عبد الناصر» يرحّب بترشيح «سليمان فرنجية» ويتمنّى له التوفيق... لكنّ القاهرة لن تتدخّل في ذلك كله (وكانت الشائعات، على أيّ حال، تقول بأنّ لمصر مرشّحاً هو «فؤاد عمّون» الذي ربّما كانت اتّفقت على ترشيحه مع الأميركيين).
وكان «سليمان فرنجية»، حين طلب من «عبد الحميد غالب» أن يبلغ «عبد الناصر» بأمر ترشيحه، قد قال له إنّه إذا ما رأى الرئيس «عبد الناصر» مانعاً يحول دون ذلك الترشيح فإنّه، أي «فرنجية»، مستعدّ للانسحاب.
هذا من ناحية مصر، أمّا الأميركيون، فقد كشف لي تناولي الغداء مع سفيرهم في لبنان «آرمن ماير»، أنّهم لن يتدخّلوا، وأنّه لا مرشّح لهم، لذلك فإنّهم يرحّبون بترشيح «سليمان فرنجية».
ومضت أيّام تلك المرحلة في لقاءات مع شتّى الكتل، ولا سيّما كتلتَي الأمير «مجيد أرسلان» و«ريمون إدّه». وكان «ريمون» قد أخبرني أنّه لا يزال عند موقفه من عدم رغبته في ترشيح نفسه، ومن تأييده لترشيح «سليمان فرنجية». وكنتُ أحسّ بصدقه رغم أنّ الكثيرين كانوا يرون أنّه إنّما يناور. أمّا بالنسبة لـ«كامل الأسعد»، فإنّه كان يقف موقفاً يتماشى مع موقفنا من الكتلتين اللتين جمعهما من حوله: كتلة جزّين وكتلة «جوزف سكاف».
أواخر شهر حزيران/يونيو، أخبرني «إبراهيم قليلات» أنّه، من خلال اجتماعاته مع الملحق الصحافي في السفارة المصرية «أنور الجمل»، فهِم أنّ القاهرة طلبت من سفيرها في بيروت أن يُبقي على علاقات طيّبة معي تمهيداً لتحسين العلاقات قريباً بيننا.
والجديد في هذا كلّه، كان ما أخبرني به الشيخ «خليل الخوري» نقلاً عن سفير فرنسا، الذي أخبره بأنّ «فؤاد شهاب» أكّد له مؤخراً أنّه لن يجدّد، فإذا ما ثابر أنصار التجديد على موقفهم يلقي بهم جانباً كـ«الجرابات العتيقة» وسوف «يتّخذ إجراءً حاسماً ويتركهم فوراً!».
بعد «إبراهيم قليلات»، جاءني الصحافي «محمد بديع سربيه»، ليؤكّد لي، بعد مقابلته «أنور الجمل» ما كان «قليلات» قد قاله لي قبل أيّام، من أنّ السفارة المصرية تنوي إعادة الاتّصال بي، وأنّ القاهرة أفهمتْهم أنّها إن كانت تساير أنصار التجديد فإنّ هذا لا يعني، أصلاً، أنّها سوف توافق على تهديم أكبر زعيم مسلم في لبنان وأنّ لـ«صائب سلام» مقامَه الكبير في القاهرة التي تتمنّى وترغب في أن تكون على أحسن صلة معه وأنّها، على أيّ حال، «لا تقبل أبداً بريمون إدّه رئيساً»، فإذا ما نُحّيتْ قضيّة التجديد جانباً، فإنّها تحبّذ مجيء «سليمان فرنجية» رئيساً مقبلاً للبنان.
وفي الوقت نفسه تقريباً زارني الشيخ «موريس الجميّل»، وبعد مقدّمات طويلة عن تقدير «حزب الكتائب» الدائم لي، وخصوصاً في الموقف الأخير الذي رأوا أنّه قد «أنقذ البلد من الخراب والانشقاق الطائفي»، طلب منّي «موريس الجميّل» أن أجتمع بأركان «حزب الكتائب» لبحث موضوع الرئاسة بالتفصيل، فرحّبت بذلك، أمّا هو فقال إنّ «الكتائب» يرون أنّ للمسلمين الكلمة الأولى في انتخاب رئيس الجمهورية، وأنّهم موقنون اليوم بأنّ «صائب سلام هو، وحده، صاحب هذه الكلمة». صحيح أنّهم لم يرشّحوا «بيار الجميّل»، وربّما لن يرشّحوه أبداً، لكنّهم يريدون للترشيح، أيّاً كان المرشّح، أن يجري على أسس سليمة.
لكن أيّ أسس سليمة ضمن وضعية يقول فيها العميد «يوسف شميط» (قائد الأركان) حسب ما أنبأني «زهير عسيران» في تلك الفترة نفسها، إنّ «الجيش على استعداد للقيام بانقلاب عسكري إذا لم يأتِ رئيس على كيف العسكريين». مهما يكن، فإنّ «يوسف شميط» نفسه كان قد قال لبعضهم قبل أيّام إنّه إذا لم يعجبه الرئيس المقبل فسيستقيل من الجيش فوراً، رغم أنّه لا تزال له أربعة أعوام خدمة قبل وصوله إلى سنّ التقاعد.
مقابل هذا، قال لي «سليمان فرنجية» إنّ أكثرية الضبّاط لا تماشي التجديد، وإنّها ليست على استعداد للقيام بأيّ عمل لأجل ذلك. أمّا العقيد «أنطوان سعد» فقد قال لـ«وفيق العلايلي» إنّ الرئيس شهاب ليس «مقهوراً» من أحد قدر قهره من «صائب سلام» لوقوفه ضدّ التجديد له!
في أوائل شهر تموز/يوليو من ذلك العام، عاد من القاهرة إلى بيروت «يوسف مزاحم»، الوزير السوري الوحدوي السابق، الذي سبق له أن زار بيروت قبل ذلك بأسبوع زيارةً سرّية، موفداً من قبل الرئيس «عبد الناصر» لدراسة الوضع في لبنان، وذلك من دون علم السفارة المصرية في لبنان، أو السفير. وكان «مزاحم»، خلال الزيارة السابقة قد اجتمع بـ«سليمان فرنجية» ووعده بموافاته قريباً بموقف «عبد الناصر» من الانتخابات اللبنانية.
بعد عودته إلى بيروت، أخبرني «يوسف مزاحم»، عن طريق صديق مشترك، أنّ الرئيس «عبد الناصر»، بعد استعراضه للوضع من كافة نواحيه، وبعد استعراض المرشحين جميعاً، وجد أنّ أفضلهم هو «سليمان فرنجية»، وأنّ نجاح هذا الأخير متوقّف على الدعم المتكامل الذي يمكن أن يقدّمه له أربعة هم: «صائب سلام وكامل الأسعد وكمال جنبلاط ورشيد كرامي». «صائب سلام» مضمون كلّياً، و«الأسعد» مضمون 60 بالمئة، بينما «جنبلاط» يخضع للإيعاز المصري الذي يتأثّر به تماماً، أمّا «رشيد كرامي» فلا يتبع سوى... مصالحه الخاصّة.
إذن، بدأ الموقف المصري يتوضّح، وبقي أن ينعكس هذا الموقف في لبنان. بالنسبة إليّ، كان العشاء الذي أقامه «فاروق شهاب الدين» لتكريمي ناجحاً جداً، ليس فقط بسبب كثافة ونوعية الحضور، ومن بينهم «سليمان فرنجية وهنري فرعون ونسيم مجدلاني وصبحي المحمصاني ومنير أبو فاضل وفؤاد نفاع وبولس فياض وغيرهم»، بل كذلك بسبب مغزاه السياسي-البيروتي الهامّ، فهو عشاء تكريمي في «البسطة»، ووسط تلك الظروف بالذات.
في الأيّام التالية، راحت الأوضاع تتطوّر بنحو لافت. وذات يوم، أخبرني الشيخ «بطرس الخوري» أنّ الرئيس «شهاب» قال لأحد أخصّائه: «إدّه... إدّه... إدّه لن يكون رئيساً للبنان أبداً، فليأتِ سليمان فرنجية ويحمل هذا الحمل!» وأخبرني الشيخ «بطرس» أنّ «شهاب» قال عبارته هذه بعصبية شديدة، ما جعل محدّثه يلفت نظره إلى أنّه يكون بقوله هذا قد أعلن تأييده لـ«فرنجية»، فقال متنبّهاً: «لا...لا... أنا لا أؤيّد أحداً».
وبالنسبة إلينا، كنّا نواصل معركتنا من دون عصبية أو زلّات لسان، وكنّا نتقدّم من دون هوادة، مثيرين من حولنا ضجّة سياسية كبيرة وصلت إلى ذروتها من خلال غداء على مصطبة «السان جورج»، دعاني إليه رئيس المجلس النيابي «كامل الأسعد»، في حضور «نسيم مجدلاني»، «صبحي المحمصاني» و«جوزف سكاف». وكان سبب الضجّة من حول هذا اللقاء أنّ تصريحاتنا وتصريحات «كامل الأسعد» و«سكاف» عبّرت عن اتّفاقنا التام، على الأقلّ على عدم عقد دورة استثنائية للمجلس النيابي، وبالتالي عدم المضيّ في مساعي التجديد، غير أنّنا لم نكن قد اتّفقنا بعد على المرشح العتيد لرئاسة الجمهورية.
خلال الأسبوعين الأولين من شهر تموز/يوليو 1964، ظلّت قضيّة التجديد على تأرجحها، والسبب هو نفسه الذي أبقاها متأرجحة خلال العامين الأخيرين: اقتراب موعد نهاية ولاية الرئيس «فؤاد شهاب»، الذي جعل أذهان الناس تنشغل بالمسألة، لدرجة أنّ البلد أصيب بما يشبه الشلل، وسط قلق عمّ الناس جميعاً من خلال لمس آفاق الغد المجهولة.
وكان الرئيس «فؤاد شهاب» هو نفسه المسؤول عن تلك الحالة، بمواقفه المضلّلة الماكرة، ومن جهة ثانية بموقف أنصاره المتحمّسين للتجديد له من الذين كان معظمهم - بالطبع - يسعى وراء مصالحه الخاصّة، وكان في مقدّمة أنصار التجديد «رشيد كرامي ورينيه معوّض وكمال جنبلاط وفضل الله دندش و... عثمان الدنا».
وأنا شخصياً، كنت أرى أنّ الرئيس «شهاب» واقعٌ في اضطرابٍ نفسي غريب. ولئن كان الناس يتساءلون بحيرة «بدّه.. ولا ما بدّه؟» و«بيقبل ولّا ما بيقبل؟» كنت أنا أعتقد أنّه «بدّه... بدّه... بدّه» ولكنّه «لا يقبل... لا يقبل... لا يقبل!» وعلى هذا النحو نجده وقد وقع في أزمة نفسية أثّرت حتى على صحّته، فيما يقع الكثيرون ممّن يقابلونه في تضليل فادح.
ويبقى أنّ أموراً كثيرة تضافرت في تلك الفترة، لتؤكّد أنّ الرئيس «شهاب» لن يجدّد، بينما أكّدت أمور كثيرة تقدّم ترشيح «سليمان فرنجية»، والحقيقة أنّ تلك الأيّام كانت حاسمة وتكاثرت فيها الاجتماعات والمواقف، وأنا لئن كنت أتحدّث عن هذه الأمور بالتفصيل هنا، فذلك لأهمّيتها في توضيح أبعاد اللعبة السياسية في لبنان، ولأنّ ما أحاط عامئذٍ بالانتخابات الرئاسية، يكاد يكون هو نفسه، مع اختلاف التفاصيل، الذي يواكب كلّ انتخابات رئاسية في لبنان، حيث ينكشف التدخّل الخارجي وتأثيره الحاسم في المواقف الداخلية. ومهما يكن، فإنّ المواقف كانت في ذلك الحين قد بدأت تتبلور، من موقف «كامل الأسعد» والكتل الملتفّة حوله، ضدّ التجديد، إلى موقف «فيليب تقلا» المؤيّد لـ«سليمان فرنجية» ولو ضدّ «ريمون إدّه» الذي يكرهه كثيراً، وصولاً إلى موقف «كمال جنبلاط» الذي طرأ عليه، كما يبدو، جديد، حين أكّد أنّه إن لم يكن هناك تجديد، فإنّه لا يرى أصلح من «سليمان فرنجية» لشغل منصب الرئاسة.
في خضمّ ذلك كله، وبعدما نُقلت إليّ مواقف عديدة على لسان «عبد الحميد غالب»، حرّرتُ للسفير المصري كتاباً قاسي اللهجة نفيت له فيه ما كان قد قاله لـ«نسيم مجدلاني» خلال لقائه معه من أنّني أؤيّد «ريمون إدّه»، وليس «سليمان فرنجية» للرئاسة، كما نفيتُ أن يكون أخَواي «مصباح» و«عمر» اجتمعا بـ«كميل شمعون» كما ادّعى «غالب». وفي الرسالة نفسها أخذتُ على «غالب» تصرّفاته السيّئة التي لا ترتكز إلّا على مصالحه الخاصّة.
في 18 تمّوز/يوليو زارني «حبيب كيروز» الذي أخبرني أنّه من خلال لقائه الطويل مع «آرمن ماير»، سفير أميركا، تبيّن أنّه ليس لدى الأخير تأييد كامل لترشيح «سليمان فرنجية»، رغم أنّه شاركه في عملية احتساب عدد أصوات النوّاب التي يضمنها «سليمان فرنجية»، فتبيّن لهما أنّه يحظى بعدد لا يمكن لغيره أن يحظى به. وبعد ذلك زارني «ريمون إده» المتخوّف كعادته من التجديد لـ«فؤاد شهاب»، أمّا أنا فجزمتُ أمامه بأنّ التجديد لن يحصل، ثمّ سألتُه بصراحة عن تأييده لـ«سليمان فرنجية»، فأكّده على عكس ما كان يشكّك فيه البعض.
وفي تلك الآونة، كانت هناك مناسبتان مهمّتان كلّ منهما تسبّب لي قلقاً محدّداً، أولاهما مناسبة 20 تمّوز/يوليو (رجوع «فؤاد شهاب» عن استقالته قبل سنوات) التي كنت أخشى أن يستغلّها «المكتب الثاني» وأنصاره لإثارة البلبلة في النفوس. وثانيتهما مناسبة الاحتفال بذكرى الثورة المصرية في 23 تمّوز/يوليو. مضت الذكرى الأولى على خير، على الرغم من كلّ الحشد العسكريّ والإعلاميّ الذي جرى بشأنها، ولم تفلح تعبئة الرأي العام للتجديد، أمّا المناسبة الثانية فكانت أكثر تعقيداً، إذ حين أقامت السفارة المصرية احتفالاً للمناسبة حضره العديد من الشخصيات، رفضتُ الحضور، رغم إلحاح الأصدقاء، وهذا ما جعل «عبد الحميد غالب» يمعن في شنّ المعركة ضدّي، فبادلتُه العراك بعراك، وخاصّة عن طريق تصريحٍ صحافيٍّ في «النهار»، بعدما كنتُ قد لفتّ الأنظار بإبراقي بالتهنئة بعيد الثورة للرئيس «عبد الناصر» في القاهرة مباشرة، وفي ذلك التصريح أشرتُ مرّاتٍ عديدة إلى تصرّفات يقوم بها «عبد الحميد غالب». ولقد كان لذلك كلّه أثره، إذ في يوم 4 آب/أغسطس زارني «سليم نصّار» وأخبرني عن اجتماع عُقد بينه وبين «أنور الجمل» المستشار الصحافي في السفارة المصرية، حضره «إحسان عبد القدّوس»، وقال «نصّار» إنّ الاثنين ردّدا أمامه الحكاية نفسها: أنّهم مستاؤون من الجفاء الواقع بيني وبين السفارة والسفير، ومن مهاجمتي لهم، وأنّهم يقْسمون بأن لا السفير ولا السفارة عملا ضدّي إطلاقاً، أو أنّ السفير عمل جدّياً من أجل التجديد. والحقيقة أنّ الجميع غير صادقين. فالسفير والسفارة عملا ضدّي خلال الانتخابات النيابية، وبعدها عملا بضراوة في معركة التجديد، والسفير لم يترك أيّ مسعى من أجل التجديد، إلّا قام به، ولا سيّما من خلال لقاءاته المتكرّرة بالنوّاب اللبنانيين.
قال لي «سليم نصّار» إنّه قد يكون من الملائم الاجتماع بـ«إحسان عبد القدّوس»، فرحّبتُ بذلك ترحيباً شديداً، خاصّة أنّني فهمتُ أنّ السفير قد اجتمع به طوال ساعتين، ما يعني أنّ لديه أشياء عديدة يقولها لي... رغم ما لديّ من معلومات تقول بأنّ «إحسان عبد القدّوس» لم يكن حينها على علاقة طيّبة بالرئيس «جمال عبد الناصر» والمحيطين به.

انتخاب «شارل حلو» رئيساً

مهما يكن، وعلى الرغم من أنّ موقف «غالب» منّي لم يتبدّل، فقد ظهر منذ أوائل شهر آب/أغسطس تبدّلٌ أساسيّ في موقفه من الانتخابات نفسها. وبرز ذلك، أولاً، من خلال قول «غالب» لـ«وفيق الطيبي» حين زاره موفداً من قبل «سليمان فرنجية»، أن لا مانع لديه من أن يقف «الطيبي» وغيره مع «سليمان فرنجية» لأنّهم «يحترمونه ويقدّرونه ويحبّذون مجيئه». ومن ناحية أخرى، انعكس ذلك في موقف «رشيد كرامي» الذي أضحى، كما أخبرني الشيخ «خليل الخوري»، أكثر عصبية حيث قال له إنّه «إذا لم يحصل التجديد فإنّه سيستقيل ويذهب إلى بيته»! ومن ناحية ثالثة، قال لي الصحافي «عبد الغني سلام» إنّ السفارة المصرية أخبرتْه بأنّ السفير، عادة، يبلغ القاهرة وجهة نظره وحده «فلماذا لم يرسل صائب سلام وجهة نظره هو؟» والحال أنّني كنتُ، قبل ذلك بأيّام، قد اتّفقتُ مع «نسيم مجدلاني» على أن نرسل «محمد بديع سربيه» لهذه الغاية، إلى القاهرة.
وبالنسبة للانتخابات، انتهى الأمر بتعيين «كامل الأسعد» جلسةَ الانتخابات الرئاسية يوم 18 آب/أغسطس، وهو موعد فاجأ الكثيرين، وجعل المناورات تتأثّر، وراحت الأوراق تختلط، وكان موقفي ثابتاً لا يتغيّر: تأييد «سليمان فرنجية»، في نفس الوقت الذي راحت فيه تتردّد وتتكرّر أسماء عديدة، إلى أن أخبرني الوجيه «جريس الطيّار» قبل عشرة أيّام فقط من موعد الجلسة الانتخابية، بأنّ «فيليب تقلا» قد كشف له عن سرٍّ هامّ، وهو أنّ الرئيس «شهاب» يؤيّد انتخاب «شارل حلو» رئيساً للجمهورية، وإن لم يكن ذلك ممكناً، فلا بأس في أن يكون الرئيس العتيد الدكتور «إلياس الخوري».
وارتفعت حدّة المناورات من جديد، مناورات ومناورات مضادّة، واجتماعات على كلّ الجهات من موالين ومعارضين وبين بين، الأكثرية النيابية تحاول أن تبقى متضامنة، والآخرون يحاولون تفكيكها، أمّا نحن، فإنّ سعْينا الجدّي المتواصل لانتخاب «سليمان فرنجية» لم ينقطع.
وأخيراً، في يوم 18 آب/أغسطس 1964 عُقدت الجلسة الانتخابية، وانتُخب «شارل حلو» رئيساً للجمهورية بعد ما تقلّبت المواقف، وكان لـ«المكتب الثاني»، من جديد، ما يريده. أحسستُ بأنّني أصبتُ بهزيمة سياسية وشخصية.