بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 أيلول 2022 12:01ص أسرار الانتخابات الرئاسية في مذكرات صائب سلام (٧)

حبيب أول من فاتحني بترشيح بشير الجميّل.. وكرّت المفاجآت في جلسة الانتخاب.. بشير أعلن ترشيحه في خطاب عنيف أجَّج الرفض الإسلامي ضدّه وراح يطوّقه بلقاءات مع النواب

حجم الخط
الإبحار مع مذكرات الرئيس صائب سلام هو في الواقع غوص في ثنايا تاريخ دولة الاستقلال، وما ميّزها من نجاحات باهرة حيناً، وما صادفها من كبوات موجعة وتحديات صارخة أحياناً. ذلك أن هذه المذكرات خرجت عن الصيغة التقليدية للسيرة الذاتية، وإهتم صاحبها بتأريخ لحظة الحدث أكثر من تركيزه على الرأي الشخصي أو الترويج لموقف سياسي، وهي بذلك تبقى مرجعا للباحث، وزادا للسياسي الصاعد، ومصدر إلهام وخبرة للأجيال الناشئة. 
من «لبنان واحد لا لبنانان»، في زمن الإنقسامات في الخمسينيات، إلى صيغة «التفهم والتفاهم» في زمن الصراعات وإنقطاع الحوارات في السبعينيات والثمانينيات، إلى الحرص على «لبنان الواحد بجناحيه المسلم والمسيحي» في زمن الإنتخابات العرجاء في مطلع التسعينيات. محطات لها تاريخ في مسار الوحدة الوطنية التي كان صائب سلام أبرز رموزها على مدى نصف قرن ونيّف.
ليس سهلاً الإحاطة، بهذه العجالة، بسفرٍ من ثلاثة أجزاء ويضم ألف وسبعمائة صفحة، فكان لا بد من إختيار محور واحد يتناسب مع الأحداث التي يعيشها لبنان حالياً، وهل ثمة أنسب من محور الإنتخابات الرئاسية، والبلد اليوم يعيش أجواء الإستحقاق الرئاسي في مرحلة من الإضطراب وعدم الإستقرار.
الحلقات ستغطي تباعاً أسرار الإنتخابات الرئاسية من إستقالة الشيخ بشارة الخوري إلى إنتخابات الرئيس إلياس الهراوي، وما تخللها من مناورات وصفقات وكرّ وفرّ هي من سمات المعارك الإنتخابية في لبنان.

ترشيح «بشير الجميّل» لرئاسة الجمهورية

هنا أتذكّر إشارة «حبيب» إلى ترشيح «بشير الجميّل» لرئاسة الجمهورية، وكان «سليم دياب» قد زار «أمين الجميّل» بناءً على طلبه، وأخبرني «النقزات» في حديثه، من أنّ الشيخ «بشير» ومَن حوله من المسلّحين يستولون باستبداد على المقاومة اللبنانية، وهم عملاء لإسرائيل وضالعون معها، وكان «أمين الجميّل» يتكلّم بحرارة قويّة ويقول: «أطلب من صائب بك أن ينقذ لبنان، فهو وحده القادر عليه ونحن نعلّق عليه الآمال، ونأمل أن يملي علينا ونحن حاضرون، قل له إنّ هذا موقف تاريخي يجب ألّا يفوتنا، وأنا مستعدّ لأن أتنازل عن كلّ شيء في الدنيا، أتنازل عن مارونيتي، عن مسيحيتي، عن كلّ العقد، على أن يبقى لبنان... وأنا واثق بأنّ صائب يحافظ على لبنان». هذا هو موقف «أمين الجميّل» من «بشير» كما نقله إليّ «سليم دياب»، أي حين بدأت أشعر بتململ مسيحي كثير من تسلّط الإسرائيليين مع بعض الكتائبيين الملتفّين حول «بشير»، بل ومن «بشير» نفسه، وهذا يتّفق أيضاً مع ما لمسه «نوّاف سلام» عند مقابلته لـ«بشير»، حين كان بعض الأصدقاء قد طلب منه أن يقابله، وكانت مقابلته لـ«بشير» في تقديري هذه المرّة مختلفة عن مقابلات «بشير» السابقة التي أجراها معه «مصطفى بيضون»، إذ إنّ الاهتمام الذي كان في الماضي لم يجده «نوّاف» هذه المرّة، بل وجد عدم مبالاة، لأنّ «بشير» يبدو أنّه يميل إلى التعامل مع الإسرائيليين، وهو يعتمد عليهم ويسهّل عملهم، وهذا ما قاله «أمين» في حديثه لـ«سليم دياب». «بشير» كان ملكاً على الواقع اللبناني منذ عدّة أشهر، أمّا في هذا الوقت فقد هبطت أسهمه كثيراً عند المسلمين وكذلك عند المسيحيين، والله يعلم ما الذي سيأتي به المستقبل القريب.
ثمّ كلّمني «بشير» أيضاً، بعد اجتماع عقده في القصر الجمهوري مع «وليد جنبلاط»، وكانت قد مضت فترة منذ مكالمتنا السابقة، وأخذ يشرح لي ملابسات الاجتماع وما كان فيه، فأصغيت بهدوء، ثمّ بعد أن أنهى كلامه قلت له: «يا شيخ بشير، هذه اجتماعات جبلية، وإن كان منها من فائدة فلمنع ما يحصل في الجبل من اصطدامات بين الموارنة والدروز، ولمنع تعميق الأحقاد، وهو شيء جيد، وأمّا من الناحية السياسية فنحن لا نعلّق عليه كثيراً، لأنّ جنبلاط لا يمثّل الناحية الإسلامية، ولا يمكننا أن نقرّ بأنّك حين تجتمع به يبدو كأنّ المسلمين والمسيحيين قد تفاهموا على شيء». واغتنمت الاسترسال في الحديث لأعيد عليه الدرس الذي كنت دائماً أقوله بتعاونه مع الإسرائيليين، وحذرته كثيراً من مغبّة ذلك، لا على المسلمين ولا على لبنان فقط، بل عليهم بالذات، وقلت له إنّه إذا أراد أن ينظر إلى مستقبل لبنان فهذه هي الضربة القاضية عليه، وكنت قد استمعت إليه بعد خروجه من الاجتماع مع «جنبلاط» على التلفزيون فتابعت معه: «إنّ هذا الأسلوب الذي تستعمله من عنف وكلمات قاسية لا يلقى قبولاً، بل يلقى صدىً سيّئاً ويولّد أحقاداً»، وكان قد قال ذلك الكلام السيّئ ضدّ الفلسطينيين، فأفهمته أنّ هذا غير مقبول، وهذه الطريقة العنيفة لن يكون فيها ما يؤهّل أمثاله لمستقبل لبنان، كما نتوخى، فلبنان لا يقوم إلّا على المحبّة.
وأذكر في هذا الإطار أنّه مساء الأحد 25 تمّوز/يوليو 1982 استمعنا من التلفزيون لـ«بشير الجميّل» في ندوة حوارية، في ما يسمّونه عندهم «برلمان الشعب»، حيث كان له حديث طويل، وأثناء الحديث طرح قضيّة ترشّحه لرئاسة الجمهورية، وأعلن أنّه مرشّح، ومرشّح جدّي، وليس للمناورة، ولا تراجع عن هذا الترشيح، وكان عنيفاً كعادته، ما أثار طبعاً كثيراً من المشاعر، فبادرني كثير من الصحافيين في اليوم التالي بأن أعلّق على خطابه، فلم أشأ ذلك لأنّني أحببت أن أتريّث، فلا أقسو بالردّ عليه كما يتطلّب ما صدر عنه، فنتساوى بالعنف، لذلك أخذت الأمور بهدوء وتروٍّ، وردّدت للجميع أنّ المهمّ هو أن نتريّث في جمع المجلس للانتخاب، لأنّ هنالك أحداثاً كثيرة ننتظرها ونتوقعها في الأسبوعين أو الثلاثة المقبلة، كي نتبيّن ما هو وضع البلاد، قبل أن نبحث في اجتماع المجلس لانتخاب رئيس للجمهورية.
وقد أتتني وفود بيروتية كثيرة بعد تصريحي، بعد أن هزّ مشاعرهم طبعاً خطاب «بشير الجميّل»، فطيّبت خواطرهم، وقلت لهم إنّنا لن نقف غير الموقف الإسلامي الصحيح، أو بالأحرى الموقف اللبناني الوطني الصحيح، وبأنّنا لن نقبل عنف «بشير الجميّل»، ولا خلفياته بأن يتسلّم رئاسة الجمهورية، ولم أكن أرغب في التصريح زيادة عن ذلك. وحين زارني «هاني الحسن» استغربت أنّه قد استمع إلى الخطاب فأعجبه، وأنّه أعتقد أنّه كان هادئاً جداً وإيجابياً جداً في ما يختصّ بالفلسطينيين، مع أنّه في نظري كان عنيفاً جداً في كلّ نواحيه.
ثمّ أتاني «سليم الحصّ»، ومن قبله «إنعام رعد»، والكلّ يسأل عن موقفي من قضيّة ترشّح «بشير الجميّل»، طبعاً أفهمتهم جميعاً أنّ هذا غير معقول ولا مقبول، ولكنّي لا أحبّ أن أصرّح بشيء، لأنّني لا أحبّ أن أستفزّ أحداً، ولنأخذ المسألة بهدوء أعصاب.
بعد ساعات فقط، كما أتذكّر، أي صباح اليوم التالي لخطاب الشيخ «بشير الجميّل»، حضر إليّ لتناول الفطور «وليد جنبلاط»، بعد قطيعة طويلة، ومعه «تقيّ الدين الصلح» و«سليم الحصّ» و«مروان حمادة»، بحضور «تمّام»، وكان الموقف يتطلّب الوقوف صفّاً واحداً، فرحّبت بهم، وطبعاً أعلن «جنبلاط» موقفه من ترشّح «بشير الجميّل» وأنّه ضدّه، كما سبق أن أعلن «رشيد كرامي» أيضاً وكما أعلن «الحصّ». بعد التشاور، قلت لهم: «ليس من المصلحة أن أعلن أنا هذا الموقف، وإنْ كنت أقف بكلّ صراحة وشدّة ضدّ هذا الترشّح إطلاقاً، لأنّ كلّ المسلمين لا يمكن أن يقبلوه، لكن لو وقفت أنا اليوم وقلت مثل قولهم صادّاً بشير الجميّل، لأعطيته دفعاً جديداً لموقفه المتعنّت والتطرّفي، وإنّما أرى من المصلحة أن أبقى معالجاً الأمر بحكمة». وقد تفهّموا جميعاً ذلك ووافقوا عليه.
وفي هذا اليوم بالذات، زرت رئيس الجمهورية، وكان حاضراً الرئيس «الوزّان» و«فؤاد بطرس»، فأمضيت وقتاً معهم شارحاً حراجة الموقف، ومؤكّداً لهم أنّه حتى تلك الساعة ليس عندهم الموقف الإسلامي رغم أنّ «الوزّان» أعاد الكرّة عليهم، وهو أمامي أخذ يقسم الأيمان بأنّ ما فهمه من المسلمين هو الموقف الحاسم، لكنّ «فؤاد بطرس» وجّه إليّ سؤالاً محدّداً وقال: «أنا أحبّ أن أفهم منك بالدقة والتحديد، هل الموقف الإسلامي هو موقف واحد ولا رجوع عنه؟»، فأكّدت له أنّ الموقف الإسلامي موقفٌ واحد ولا رجوع عنه إطلاقاً، وذلك بعدم القبول بـ«بشير»، وأضفت أنّني أحبّ، بالاتّفاق مع إخواني، أن أبقى على موقفي غير المعلن، لنحاول أن ننزع فتيل العنف الذي ولّده «بشير الجميّل»، وذهبت إلى أبعد من ذلك فقلت: «إنّ ما يهمّنا اليوم هو إنقاذ لبنان، فالقضيّة ليست ترشّحاً لرئاسة الجمهورية، ولا قضيّة عدد نوّاب ومَن يصوّت لمن، القضيّة هي موقف إسلامي - مسيحي، ولبنان لا يقوم إلّا على التوافق بين جناحيه، وإنّنا على استعداد للقبول بأيّ مخرج من هذا المأزق، أي أن نأتي بمرشّح يكون مقبولاً، طبعاً لا بدّ من أن يبقى مارونياً، وقد نذهب إلى أبعد من السابق، فأنا على الرغم من مواقفي السابقة ضدّ التمديد لسركيس، أوافق اليوم، بل ربّما أرى في ذلك مخرجاً»، وأحببت أن أشدّد على ذلك، فلم ينبس «سركيس» ببنت شفة، ولم يقل شيئاً، لا رفضاً ولا قبولاً.
وأذكر أنّه قابلني في القصر «خليل زنتوت»، وهو يحمل رسالة خاصّة من «بشير الجميّل»، بأنّه يريد أن يجتمع بي وأن يشرح لي الموقف، فقلت له: «يا ليته استشارني قبل الإعلان لا بعده!»، وقلت له: «إنّ الوضع حرج ويجب أن يفهم بشير هذا، هل هو يريد أن يقسّم لبنان، إن كان يريد لبنان وسلامة لبنان، فنحن على استعداد للبحث في ذلك بمختلف الأساليب والطرق والمخارج، ولكن ليفهم أنّ موقفه، وخصوصاً بالعنف الذي أعلن به ترشّحه، أدّى إلى صدمة عنيفة عند المسلمين»، وطلبت منه أن ينقل كلّ ذلك إلى «بشير».
ومن القصر، أذكر أنّني توجّهت إلى «كامل الأسعد»، وكانت قد سرت معلومات بأنّه متضامن مع «بشير الجميّل» أو يسايره، أو أنّه يريد أن يحافظ على المهلة الدستورية المسؤول عنها للانتخاب، فلا يسرع بتعيينها مهما كانت النتائج. أمضيت معه ساعة أتحدّث بحكمة ورويّة وتعقّل كي أفهمه الواقع وما ينتج عنه من محاذير، وأن لا قبول بـ«بشير الجميّل» إطلاقاً عند المسلمين، وهو بنفسه أضاف فأعلمني أنّ «أنور الصبّاح» ذهب من قِبله فقابل «فرنجيّة» و«كرامي»، وكانا طبعاً رافضَين علناً وبقوّة، ثمّ إنّه توجّه إلى سوريا فوجد عندها رفضاً مطلقاً لـ«بشير الجميّل»، وهذا ما يعين موقف كامل ولا شكّ، وكان كلّ مطلبي منه هو التريّث، فأمامنا شهر كامل لتعيين الجلسة، وأضفت ما قلته للرئيس من أنّ أمامنا أيضاً موعداً قبله (أي في 13 أيلول/سبتمبر) بموجب الدستور وقد نمدّده، وأعتقد أنّ زيارتي كانت موفّقة معه، كما كانت موفّقة عند الرئيس، وهذه المساعي لا بدّ من أن نقوم بها لترتيب الأمور.
نعم، ترشّح «بشير» زاد القلق عند الجميع، ففي هذا اليوم نفسه، كما أذكر تماماً، تتابعت الاتّصالات، والزيارات، فأتاني «حسين اليتيم» مستشار «نبيه برّي» ومعه «حسن هاشم» القيادي في «حركة أمل» ونائب «نبيه برّي» فيها، ومكثا عندي مدّة، وكان أيضاً موقفهما واحداً في عدم القبول بـ«بشير الجميّل». وكذلك زارتني وفود كثيرة، وزارني «عدنان القصّار» و«سليمان العلي»، وهو أبلغني أنّ موقفه هو مثل موقفنا تماماً، ولا يقبل بقضيّة «بشير الجميّل» إطلاقاً، وأنّه كان مجتمعاً بالنوّاب السنّة الأربعة الذين يجتمع معهم عادة، وهم «حسن الرفاعي» و«رشيد الصلح» و«ناظم القادري» و«زكي مزبودي»، وبعد التداول أفهمهم أنّنا اليوم يجب أن نكون كلّنا يداً واحدة ويجب أن نذهب جميعاً إلى «صائب»، فهو اليوم قائدنا جميعاً وزعيمنا، ويجب أن نلتفّ حوله وأن يبقى موقفنا الإسلامي واحداً موحّداً، وأنّه هو، بالاتّفاق مع «طلال المرعبي» في الشمال، يرفضان قضيّة «بشير الجميّل» رفضاً كاملاً.
كذلك زارني مساء اليوم نفسه «تقيّ الدين الصلح» و«محمّد شقير» عائدين من «الشرقية»، حيث أمضيا ليلتهما السابقة عند «نصري المعلوف»، ونقلا إليّ أنّ جنون «نصري المعلوف» واصل إلى السماء، وهو أفهمهم أنّه لا أحد يمكنه أن يتكلّم تحت ضغط «بشير الجميّل»، حتى «شمعون» نفسه لا يمكنه أن يقول كلمته، وهو ما زال يتّخذ موقفاً حذراً. وأعتقد أنّه يأمل أن يكون هو موضع حلّ للطرفين، وكذلك نقل إليّ «تقيّ الدين» أنّه زار الرئيس وأفهمه الموقف، وأنّه كلّمه عن التهديد أيضاً، و«محمّد شقير» ذهب إلى المير «مجيد» من قِبلي ونقل إليّ أنّ المير «مجيد» أكّد له أنّه ناقم على تصرّفات ابنه «فيصل»، وأنّه لا يقبل أبداً إلّا أن يتماشى مع الصفّ الإسلامي.
وتتابعت الاتّصالات والزيارات، فقصدني «هنري فرعون» بعد زيارته القصر الجمهوري حيث شرح له الرئيس ما دار بيننا، وأكّد له أنّه مرتاح لموقفي وأنّه لا مجال لأن يستمرّ «بشير الجميّل» في ترشّحه، وطلب من «هنري» أن يساعده في إقناع المسيحيين بذلك. وأنا بدوري شعرت بأنّ «هنري» ضدّ ترشّح «بشير»، ولكنّه مرتبك في كيفية إقناعه أو إقناع مَن حوله بعدم جدوى استمراره.
كذلك كلّمني «جورج أبو عضل» هاتفياً، وأنا أعرف أنّه متحمّس لـ«بشير الجميّل»، فأفهمته الموقف الإسلامي، فحاول أن يقنعني بعكس ذلك، وبأنّه ليس من الضرورة الآن أن نأخذ موقفاً. قلت له بقسوة: «يا جورج، إنّ الأمر عكس ما تعتقد، فالموقف الإسلامي هو موقف رافض رفضاً كاملاً!»، فأشار إلى أنّ هذا يؤزّم الأمر، فقلت له: «أنت ترى أنّني لم أتّخذ موقفاً إلى الآن يؤزّم الأمر، بل على العكس عندما سألني أحد الصحافيين مَن هو مرشّحك اليوم لرئاسة الجمهورية، قلت له إنّ مرشّحي هو لبنان الذي قام على المحبّة والتوافق بين المسلم والمسيحي، ولا يستمرّ أبداً إلّا على هذا التوافق بين المسلم والمسيحي، وعلى أساس المحبّة، وأظنّ أنّ ذلك كفاية اليوم، فلن أزيد من تأزم الأمور ليشتدّ العنف عند بشير ويشتدّ العنف الإسلامي من الجهة الأخرى، فليعتبر هو وغيره!».
كذلك أتاني «فؤاد لحّود»، العقيد والنائب، وهو ممّن يقاومون بكلّ ما لديهم ترشّح «بشير الجميّل»، فأوضحت له الموقف الإسلامي النهائي والحاسم، وأنّني أريد أن أشرحه لكلّ من يريد أن يسمع من إخواننا المسيحيين، فيجتمعوا على «بشير» ويفهموه الممكن. ولكن يبقى ظنّي الأكيد أنّ «بشير» لن يتراجع، لأنّ من أهدافه أن يستمرّ حتى ولو قسّم لبنان، وحتى ولو استقلّ بالمنطقة التي يحكمها بالحديد والنار، ليأخذ من ذلك منطلقاً إلى أنّه حرّر ذلك القسم من لبنان، وهو سيعمل على تحرير الباقي، والى أين ننتهي بهذه الطريقة؟... لا أدري. ولكن هذا هو ظنّي به اليوم، إلّا إذا تطوّرت الأمور وانجلت بعض الأشياء بخروج الفلسطينيين ومجيء قوى دولية، فربّما ينشأ ظرف غير هذا الظرف، ولكن خلاف ذلك لا أرى أنّه سيتراجع إطلاقاً. و«فؤاد لحّود» ليس الوحيد الذي يأتيني مستنجداً من قضيّة ترشّح «بشير»، بل هناك أصداء مسيحية أكثر ممّا كنت أتصوّر، وذلك عند العقلاء منهم الذين يرسلون إليّ أخباراً، ومَن يذهب من أبنائنا إلى هناك ينقل إلينا الجوّ الذي يكفر بـ«بشير»، ولكن لا يتمكن أحد هناك من أن ينبس بنبت شفة خوفاً من إرهاب «بشير».
ومن هؤلاء أيضاً، «فؤاد نفاع»، فقد أتاني وهو مضطرب جداً، طبعاً لأنّه يرى أنّ ترشّح «بشير» قد قضى عليه، ولكنّه ما زال يأمل، ثمّ راح بأسلوبه يبيّن لي النقزة المسيحية، وأنّه ليس بإمكان أحد أن يقف في وجه «بشير»، وأنّ الأمر كلّه يتوقف علينا نحن المسلمين، وعلى موقفي شخصياً... ومن هنا انطلق بعد حديث طويل ليقول إنّ علينا أن نأخذ نحن موقفاً بترشيح آخر في وجه «بشير»، طبعاً يقصد أن نرشّحه هو، فعند ذلك يمكن أن يقوم للمرشّح الذي نرشّحه قائمة. قلت له: «يا فؤاد، نحن لن نرشّح أحداً، وسنبقى على القول إنّ بشير يجب أن يعتبر وإنّ من المصلحة أن يكون هناك مرشّح يتّفق عليه المسلمون والمسيحيون بأكثريتهم، وسنرى الأيّام المقبلة وما تأتي به».
كذلك زارني «جوزف سكاف». و«جوزف سكاف» مضت عليه مدّة وهو يتّصل بي وأتّصل به هاتفياً، بعد حين ألحّ عليّ كثيرون كي أراه أو أقابله عندما أذهب إلى زيارة «حبيب» أو إلى القصر في اليرزة، لكنّني كنت أردّ أنّني لن أقابل أحداً، فإذا فتحت هذا الباب فلن يُغلق مجدّداً... فـ«بشير الجميّل» يريد أن يقابلني هناك وكثيرون يريدون أن يقابلوني هناك. وهو قد أتى برفقة السيّد «حسين الحسيني»، وكان عندي «تقيّ الدين»، فانفردنا وحدنا وشرحت له أن لا مجال إطلاقاً لأن يقبل المسلمون بترشّح «بشير الجميّل» وأن يكون رئيساً للجمهورية، وأنّ القضيّة ليست قضيّة عدد، وأنّه يجب أن يُفهِم ذلك لكلّ من حوله. واتّفقنا على أن نبقى على تواصل، وأنّه سيقوم بما يجب. و«جوزف سكاف» لا شك في أنّه كما يقولون بالدارج «طبل وزمر» عند هذا وذلك.
وأذكر من هذه الزيارات، زيارة «عبد اللطيف الزين» و«رفيق شاهين»، فقد قصداني في طريقهما إلى الجنوب، ليستأنسا برأيي، فتحدّثنا في قضيّة «بشير الجميّل» وترشّحه، وكأنّهما يريدان تأييده. فأفهمتهما أنّ الموقف الإسلامي لن يقبل ذلك إطلاقاً، وأنّ من يقف على خطّ مختلف من ذلك فإنّما يعرّض نفسه للخروج عن الصفّ الإسلامي، فوعدا بأن لا يخرجا عن الصفّ الإسلامي، وكانا مجاملين كثيراً، لذلك أصبحت أشكّ في العمل الذي يقوم به «بشير الجميّل»، ومَن هم وراءہ في «الناحية الشرقية»، وخصوصاً الوزير «المرّ» والملايين التي يُلوّح بها للكثيرين، وأنا لا أحبّ أن أرمي الشبهة على أحد، ولكنّني ابتدأت أشعر بأنّ هنالك تأرجحاً في المواقف الإسلامية.
على كلٍّ، أتاني «جنبلاط» بعد ذلك، وهو على موقفه الشديد ضدّ ترشّح «بشير الجميّل»، وقد أخبرته أنّني أرسلت أول مبعوث وثاني مبعوث إلى المير «مجيد»، فوعد وعداً قاطعاً بأن يقف موقفنا من ترشّح «بشير الجميّل»، هو لن ينسلخ عن الموقف الإسلامي، إذن فهنالك «جنبلاط» والمير «مجيد أرسلان» عن «الدروز» في موقف واحد، وهنالك «برّي» عن الشيعة، ولكنّني أخشى كثيراً ممّا يقوم به مع مَن هم في «المنطقة الشرقية»، من تهديد ووعيد.
كذلك أتاني «ناظم القادري» و«زكي مزبودي» الذي كان غائباً عن لبنان. و«زكي» يزورني للمرّة الثالثة بعد فراق سنوات طويلة، وقد نفخت فيهما الروح وقلت لهما إنّ الواقع لا يتقبّل التردّد، فالموقف الإسلامي واحد، وإن كنت أنا متريّثاً في إعلان الموقف علناً لأسباب جوهرية، هي عدم مصادمة «بشير الجميّل» بعنف يعطيه قوّة إضافية، ولكنّ موقفي معروف، وقد أبلغته للجميع من مسيحيين ومسلمين، ولرئيس الجمهورية ولرئيس مجلس النوّاب، وكله صار معروفاً ومنشوراً، فوعدا أيضاً ألّا يختلفا عن موقفي في هذا الموضوع. ولكنّني لا أحبّ أن أطمئنّ بعد اليوم لبعض النوّاب خصوصاً من الذين اعتدت تصرّفاتهم السابقة.
وفي هذا الإطار الأخير نفسه، جاءني «محمّد يوسف بيضون» ليخبرني أنّ «بشير الجميّل» زاره في داره بـ«الشرقية»، وكان عنده «علي الخليل» و«مصطفى درنيقة»، وسرد لي ما دار من حديث شعرت منه كأنّه يميل إلى «بشير» وليس معارضاً له، فلمته كثيراً ونفخت فيه الروح القويّة، خصوصاً بعد الذي دار بيني وبين «رفيق شاهين» و«عبد اللطيف الزين»، وأنا فعلاً صرت متخوّفاً من مناورة يقوم بها النوّاب الشيعة، خصوصاً أنّ «جو حمّود» الذي كلّمني فور عودته من أوروبا، قال لي إنّه أتى خصّيصاً ليمشي بقيادتي وأمري، وهذا كلام تعوّدته، كما قلت، وأصبحت فعلاً أخشى، وعلينا أن نفتح عيوننا جيداً من بعض الإخوان.وأذكر في هذا الإطار، أخيراً، أنّ «شارل مالك» كلّمني، بعد أن أخذ رقم هاتفي من «سيسيل حوراني»، فكان مجاملاً للغاية، ولكنّني اغتنمتها فرصة فشرحت له الموقف من «بشير»، وأنّه لا يمكن أن ينقسم لبنان على مرشّح لرئاسة الجمهورية، وأنّنا لو كنّا غير حريصين على بقاء لبنان واحداً موحّداً لكنّا رشّحنا مسلماً، ولكنّنا نأبى أن نقوم بذلك، حتى لا تكون له ردّة فعل مسيحية، فليعفنا «بشير الجميّل» من ردّة فعل إسلامية تقود إلى تقسيم لبنان، وأنا، رغم كلّ ذلك، ما زلت أعتقد بأنّ «بشير الجميّل» سائر إلى النهاية في الأمر، فإن لم ينتخبه المجلس فسيحتفظ بجمهوريته في «الغيتو» الذي يسيطر عليه اليوم، والذي لا يزيد عن ألفي كيلومتر، بحجة أنّه سيحرّر ما بقي من لبنان في ما بعد، وهذا لا أستبعده أبداً، وها نحن نحاول إرجاء تعيين جلسة المجلس إلى أبعد حدّ ممكن، ليتوفر لنا الوقت المناسب، لعلّ الفلسطينيين يكونون قد خرجوا من بيروت، ولعلّ القوّة الدولية المتعدّدة الجنسيات تكون قد أتت وتسلّمت الأمن في بيروت ثمّ في ضواحيها، فتتبدّل الصورة تبدّلاً جذرياً، وعندها يكون لكلّ حادثٍ حديث.
أمّا «سليم الحصّ»، فقد أدلى أخيراً بتصريح بعد مقابلته «كامل الأسعد» بضرورة عدم الإسراع في الانتخابات، ولمّح إلى رفضه العنف، وقيل لي إنّه خاطب الصحافيين بوضوح بأنّه يرفض ترشّح «بشير الجميّل»، وقد ذكره بالاسم.

جلسة الانتخاب

الاثنين 23 آب/أغسطس، كان اليوم العظيم للانتخاب. منذ الصباح بدأ التلفزيون يغطّي التحرّكات النيابية، ومَن يصل إلى المجلس من النوّاب اسماً اسماً، وكنّا نتوقع كلّ مَن حضر إلى المجلس، ولكنّ الفاجعة الكبرى رأيناها على الشاشة فجأة... «سليمان العلي» يدخل مع «طلال المرعبي»، فأدركنا أنّنا قد خسرنا، وبعد ذلك دخل «إميل روحانا صقر» أيضاً، وهذا يعني أنّنا لن نتمكّن من حجب الواحد والثلاثين صوتاً. وهكذا حصلت الانتخابات بعد النصاب المطلوب، حسب قول رئيس المجلس، وكان في اعتقادنا أنّ المطلوب هو 66 نائباً. على كلٍّ، أُجريت الانتخابات فأخذ في الدورة الأولى 56 صوتاً مع ثلاث أوراق بيضاء وورقة باسم «ريمون إدّه»، ثمّ أعيد الانتخاب حسب الأصول فأخذ «بشير» 57 صوتاً و5 أوراق بيضاء وأصبح رئيساً للجمهورية، وعلى هذا كان علينا أن نتّخذ موقفاً ممّا حصل.
دعوت بعد الظهر إلى اجتماع إسلامي موسّع، حضره معنا بعض إخواننا المسيحيين، مثل «منير أبو فاضل» و«ألبير منصور»، و«نجاح واكيم»، و«فريد جبران» الذي كان قد نام عندي خشية أن يخطفوه ليلاً. وكان نقاش طويل، ابتدأه «الحصّ» بعنف كلّي يريد مقاطعة نتائج الانتخاب ومقاطعة رئيس الجمهورية، والسير بنا إلى البعيد وإلى النهاية في مقاومة رئيس الجمهورية.
وكان معنا بعض إخواننا الشيعة: «حسين الحسيني» و«علي الخليل»، فطلبوا إليّ، بيني وبينهم، أن أُلطّف الجوّ كي يتحمّلوا معنا شيعياً ما ذهبت إليه الأكثرية الشيعية في الجلسة، وألححت على أن يأتي «نبيه برّي»، الذي تعذّر مجيئه إلى الاجتماع، فأتى به «حسين اليتيم»، فتقوّى الاثنان الموجودان به، خصوصاً أنّ «حسين الحسيني» كان قد ذهب لمقابلة الشيخ «محمّد مهدي شمس الدين» إذ إنّ الشيخ والمفتي كانا قد أصدرا بياناً قويّاً أمس يطلبان فيه تأجيل الجلسة مرّة أخرى لإفساح المجال للتشاور على رئيس وفاقي.
قلت إنّ «الحصّ» ابتدأ الجلسة بعنف كبير طالباً أن نذهب إلى أبعد الحدود في مقاطعة رئيس الجمهورية ومقاطعة الحكم. وبعد التداول، وكلام من هنا وكلام من هناك، وكان البعض متشنّجاً والبعض الآخر قاسياً، إلى أن أخذتُ المسألة بحكمة ورويّة وكنتُ أترأس الجلسة، فخرجنا بموقف صلب ومتين، بدون أن نقطع شعرة معاوية، فلم نخرج بمقاطعة نتيجة الانتخابات نهائياً، بل وضعنا بياناً في صيغة لائقة وطيّبة تثبت موقفنا الشديد، بانتظار تطوّرات الأيّام المقبلة.