بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 أيلول 2022 08:08ص أسرار الانتخابات الرئاسية في مذكرات صائب سلام(٨)

ترشيح «اللقاء الإسلامي» لأمين الجميّل حقّق إجماعاً وطنياً حوله.. تمسّكت بترشيح الوزان لرئاسة الحكومة وإبعاد أحمد الحاج وتقي الدين الصلح

حجم الخط
الإبحار مع مذكرات الرئيس صائب سلام هو في الواقع غوص في ثنايا تاريخ دولة الاستقلال، وما ميّزها من نجاحات باهرة حيناً، وما صادفها من كبوات موجعة وتحديات صارخة أحياناً. ذلك أن هذه المذكرات خرجت عن الصيغة التقليدية للسيرة الذاتية، وإهتم صاحبها بتأريخ لحظة الحدث أكثر من تركيزه على الرأي الشخصي أو الترويج لموقف سياسي، وهي بذلك تبقى مرجعا للباحث، وزادا للسياسي الصاعد، ومصدر إلهام وخبرة للأجيال الناشئة. 
من «لبنان واحد لا لبنانان»، في زمن الإنقسامات في الخمسينيات، إلى صيغة «التفهم والتفاهم» في زمن الصراعات وإنقطاع الحوارات في السبعينيات والثمانينيات، إلى الحرص على «لبنان الواحد بجناحيه المسلم والمسيحي» في زمن الإنتخابات العرجاء في مطلع التسعينيات. محطات لها تاريخ في مسار الوحدة الوطنية التي كان صائب سلام أبرز رموزها على مدى نصف قرن ونيّف.
ليس سهلاً الإحاطة، بهذه العجالة، بسفرٍ من ثلاثة أجزاء ويضم ألف وسبعمائة صفحة، فكان لا بد من إختيار محور واحد يتناسب مع الأحداث التي يعيشها لبنان حالياً، وهل ثمة أنسب من محور الإنتخابات الرئاسية، والبلد اليوم يعيش أجواء الإستحقاق الرئاسي في مرحلة من الإضطراب وعدم الإستقرار.
الحلقات ستغطي تباعاً أسرار الإنتخابات الرئاسية من إستقالة الشيخ بشارة الخوري إلى إنتخابات الرئيس إلياس الهراوي، وما تخللها من مناورات وصفقات وكرّ وفرّ هي من سمات المعارك الإنتخابية في لبنان.

ترشيح «أمين الجميّل» لرئاسة الجمهورية

فور انتهاء مأتم «بشير الجميّل»، اجتمع مجلس «الكتائب» في اليوم الثاني صباحاً، وقرّر ترشيح أخيه الشيخ «أمين الجميّل» لرئاسة الجمهورية. وفي ذات اليوم مساءً بلغنا أنّ «كميل شمعون» قد قدّم أيضاً ترشيحه، أو أعلن ترشّحه، فإذنْ هنالك مرشّحان. ثمّ في اليوم التالي جاء ترشّح «ريمون إدّه» من باريس، وهو يقول إنّه يرشّح نفسه على أساس أن ينسحب الإسرائيليون والفلسطينيون من لبنان. طبعاً لم يأخذ أحد هذا الترشّح بصورة جدّية، فنحن إذن بين ترشيح «أمين الجميّل» و«كميل شمعون».
«كميل شمعون» يخافه الجميع، بالنسبة لخلفياته وتصرّفاته السياسية، خصوصاً أنّه في الآونة الأخيرة قد أعلن أنّه يجب على لبنان ألّا يعقد معاهدة صلح مع إسرائيل، ولكن يمكنه أن يعقد معاهدة أمنية، وربّما كان هذا أسوأ من معاهدة صلح، ومن ثمّ، فقبل يومين أرسل «شمعون» برقيّة إلى «بابا روما» الذي استقبل «أبو عمار» - وكان لذلك فائدة كبرى للعالم العربي والإسلامي - مستنكراً ذلك، وحتى إنّه تعرّض للبابا باسم المسيحيين، وباسم «الجبهة اللبنانية»، وباسم مسيحيّي الشرق، وأنذر بأنّ هذا يضرّ بهم، وجعل «أبو عمار» مسؤولاً عمّا أصابهم ويصيبهم من أهوال ومذابح...
هذان أمران تركا في نفوس المسلمين أثراً دائماً، وعلى كلّ، فأنا لم أكن لأساير «شمعون» في ترشّحه، إذنْ الميْل صار لـ«أمين الجميّل» وحده، ولكن، لأنّ الإلحاح كان يأتيني من هنا وهناك، وبتصاعد مستمرّ، فقد كنت أتحفّظ في أن أبدي رأياً منفرداً، حتى لا يؤخذ عليّ ذلك، ففضّلت أن أبقى في تداول فردي مع هذا وذاك من رفاقنا وأصدقائنا، إلى أن جاء يوم دعوتهم فيه إلى اجتماع صباح يوم أحد، وقد استمرّ الاجتماع حوالي أربع ساعات أو خمس، وبعد أخذ آراء الجميع - دون أن أبدي أنا أيّ رأي - وبعد أن وضعت كلّ شيء في الحساب، قلت: «هذه المرّة يجب أن نكون نحن أصحاب المبادرة، نحن أي المسلمين، فنحن نقرّر مَن يكون رئيساً للجمهورية قبل أن تجتمع الكتل»، وفعلاً كانت هذه الكتل قد بدأت تعلن عن اجتماعاتها: غداً يجتمع «كامل الأسعد» مع نوّابه، وأيضاً التكتّل النيابي المستقلّ، وأيضاً الأمير «مجيد أرسلان» ونوّابه، و«جوزف سكاف» ونوّابه، فقرّرنا في النهاية أن أصدر بياناً أقول فيه إنّنا نرشّح «أمين الجميّل».
وهكذا أعلنت ذلك من التلفزيون، وكانت له رجّة قويّة فورية، بدأت أصداؤها تأتيني من هنا وهناك، والكلّ قدّر أنّ المسلمين هذه المرّة أخذوا المبادرة، خصوصاً أنّ القوّة على الساحة أصبحت واضحة، وهي لـ«حزب الكتائب» ومن يلوذ بهم، وأنّ الميليشيات التي كان وعد «بشير الجميّل» بأن يحلّها ليس بإمكان أحد نأمل منه حلّها سوى «أمين الجميّل»، إذا تمكّن من ذلك، وإذا عاونّاه عليه، خصوصاً بعد المأساة الكبرى التي جرت، أي المجزرة التي ابتدأت تتّضح معالمها قبل يومين في مخيّمي «صبرا» و«شاتيلا»، إذ دخل مسلّحون بحراسة ودفع من الإسرائيليين، فأوقعوا مجزرة دامية، كبيرة جداً، فيها القتل والتشويه الجماعي بمئات أو ربّما بألف أو يزيد، فيهم النساء والرجال من الفلسطينيين، ومعهم بعض من اللبنانيين. أوقعت هذه المجزرة رجّة عظيمة في طول البلاد وعرضها، بل وفي العالم بأسره. وأخذت تأتينا الأصداء من أوروبا ومن أميركا، عبر الصحف والتلفزيون، والعالم كلّه يستفظع ذلك، ويرى في المجزرة هولاً شنيعاً لم يعهده المجتمع البشري منذ زمن بعيد.
طبعاً هذا كان أيضاً ممّا جعلني أبادر فأقرّر ترشيح «أمين الجميّل» من قِبل المسلمين، لأنفي عن «الكتائب» أنّهم هم كانوا الأداة، لأنّ هنالك إبهاماً في الموضوع، فالبعض يقول إنّهم «الكتائب»، والبعض يقول إنّهم جماعة «سعد حدّاد». أمّا الدلائل التي عندي فلا تؤكّد أنّهم كانوا جماعة «سعد حدّاد»، وأنا أميل إلى أنّهم كانوا من «الكتائب»، ولكنّني أخذت من أول دقيقة ما وجدته من مصلحة وطنية فنفيت ذلك، وكنت أول من أعلن هذا النفي، وأنّ «الكتائب» لم يدخلوا في هذا الموضوع، وأنّ القضيّة قضيّة إسرائيل و«سعد حدّاد»، تفادياً لتفاقم الوضع بين المسلمين والمسيحيين، وخصوصاً في الآونة الصعبة التي نمرّ بها.
نعم، قلت ذلك، مع إدراكي أنّ الذين قاموا بهذه العملية هم فريق من «الكتائب» بحماية من الإسرائيليين على الأرجح، فقد أحببت أن أبدأ بنفي ذلك، لأنّنا مقبلون على مراحل فيها الكثير من المصاعب، ولا بدّ من تبريد الأجواء المسيحية - الإسلامية. فتحمّلت المسؤولية، وأخذت الأمر على عاتقي، وكنت أول من يردّد للصحافيين الأجانب وهم ينقلون عن لساني وينشرون في الصحف، أنّ «الكتائب» ليست ضالعة في هذه المجزرة الرهيبة، بل هم جماعة «سعد حدّاد» والإسرائيليون، غير راغب في أن أشوّه، بصورة خاصّة، ما صدر عن اللقاء الإسلامي من ترشيح لـ«أمين الجميّل»، والذي ولّد جوّاً إسلامياً - مسيحياً إيجابياً، نستفيد منه في المستقبل إن شاء الله.

انتخاب «أمين الجميّل» رئيساً للجمهورية وقسم اليمين الدستورية

كان يوم الثلاثاء في 21 أيلول/سبتمبر 1982 يوماً مشهوداً جرى فيه انتخاب «أمين الجميّل» رئيساً للجمهورية، هذا الانتخاب الإجماعي حصل بعد أن انسحب «شمعون» قبل يوم، على أثر ما بلغه من قرارنا في «اللقاء الإسلامي» بترشيح «أمين الجميّل»، بل هو انسحب قبل يومين، فور بلوغه الخبر بأنّنا نحن قرّرنا تأييد «أمين الجميّل»، فأدرك أن لا مجال له، ولكنّه على ما نعهده فيه من حرّية سياسية، فقد كان إعلانه العزوف عن الترشّح وكأنّه ترشّح لخطوة مقبلة، إذ يعتقد، ربّما، لا سمح الله... أنّ «أمين» هو المرشّح المقبول عند المسلمين، وذلك بعد أن أشبعنا بياننا عروبة ورفضاً للمعاهدة التي كانت من المآخذ الكبرى على «شمعون».
وصدف أنّي وصلت إلى ثكنة الفياضية حيث يلتئم المجلس النيابي، وقد احتشد فيها النوّاب، وهي الثكنة التي رفضنا أن نذهب إليها في السابق لانتخاب «بشير»، لكن لكلّ ظرف حكمه، والآن تغيّرت الأجواء، وكان من الضروري أن أشترك في الانتخاب، نعم صدف عند وصولي إلى أول القاعة، وهي طويلة جداً ومزدحمة، أن دخل أيضاً «أمين الجميّل»، وكأنّه كان ينتظرني، فعانقني عناقاً طويلاً أمام الجميع، وكذلك عانقني والده، ثمّ أراد أنْ يُدخلني أمامه إلى القاعة حيث الطريق طويل إلى المقاعد الأمامية، فرفضت، فألحّ وألححت.. وألحّ، وكان المشهد منقولاً على التلفزيون فرآه كلّ المسلمين، ورأوا فيه اعتزازاً كبيراً، بعد أن رأوا «بشير الجميّل»، يوم قابلته في القصر الجمهوري، يفتح لي باب السيّارة شخصياً ليجلسني إلى جانبه، وهي مشاهد تعطي روحاً للمسلمين يعتزون بها، وليس عند المسلمين من شيء أكثر من الاعتزاز النفسي، وحفظ المعنويات، وهذا ما ميّزهم دائماً والحمد للّه.
دخلنا القاعة معاً ومشينا من أولها، وهي طويلة، حتى المقاعد الأمامية، فأجلسني «أمين» في المقعد الأمامي إلى اليسار، وهي مقاعد مخصّصة للوزراء، ثمّ جلس هو إلى يمين «كميل شمعون» ووالده «بيار».
سلّمت على «كامل الأسعد» من بعيد، فردّ السلام ببرودة، وفي افتتاحه الجلسة، ولم يكن ذلك من العادة، قدّم بكلمة فيها غمز منّا، فلم آبه لذلك، فهو لا يصغّرني. وبنهاية الانتخاب هنّأني الجميع من نوّاب وسفراء وغيرهم، بعدها قبّلني «أمين الجميّل»، وقبّلني كثيراً وكأنّني أنا صاحب الانتخاب، لأنّ هذا الإجماع اللبناني ما كان ليقف على رجليه لولا «صائب سلام»، الذي اتّخذ هذا الموقف وجعل اللقاء الإسلامي يقرّر ذلك بإجماعه، رغم ما كان فيه... وكنت أفهمتهم أنّ هذا يجب أن يكون موقفنا.
وكان بعضٌ من النوّاب قد اجتمعوا صباح الانتخاب عند «منير أبو فاضل»، وهم: «ناظم القادري» و«زكي مزبودي» و«رشيد الصلح» و«نجاح واكيم»... كأنّهم أرادوا أن ينفصلوا عنّا، وحين سمعوا بأنّنا مجتمعون ومقبلون على تأييد «أمين الجميّل»، أتوا وانضمّوا إلينا، وهنا حاولوا بعض المحاولات، كما حاول غيرهم، ولكنّني أسكتّهم، كما أسكتّهم يوم عُقِد الاجتماع بعد مقابلتي لـ«بشير الجميّل» وكانت لهم بعض الاعتراضات.
وبعد يومين، كان موعد قسم اليمين، وكان يوماً مشهوداً أيضاً. كانت الحشود أكثر من الجلسة السابقة، تجلّى فيها الإجماع اللبناني الذي يطلبه الجميع، ولا أبالغ إذا قلت إنّ الجميع كانوا ينظرون إليّ، كما لو أنّ الأمر هذا كلّه من صنعي والحمد للّه. وقد دخلت، فوجدت وزراء الحكومة هذه المرّة جالسين في المقاعد الأمامية، ومع هذا أُفسح لي كرئيس سابق للوزارة، فجلست في موقعي السابق، أي على رأس الطرف من اليسار من المقاعد الأمامية، ثمّ أتى «شمعون» و«بيار الجميّل» فأُجلسا هذه المرّة في الصفّ الثاني، وتُرك الصفّ الأول لرئيس الحكومة وللوزراء الذين معه، وكان هناك كلّ السفراء الذي هنّأوني على الموقف، وعلى الانتخاب، وعلى ما يأملون من هذه الوحدة اللبنانية، وكان السفير «حبيب» قد وصل أمس، فانضمّ إلى المجتمعين، وحين أردت أن أسلّم عليه قال: «لا أسلّم إلّا على الطريقة الشرقية، فلأقبّلك تقبيلاً لِما قُمت وتقوم به»، وتابع أنّه ذاهب إلى «تل أبيب» بعد يومين وحين يعود يحبّ أن يراني.
وطوال هذا اليوم أتتني أصداء كثيرة عمّا كان قد نقله التلفزيون ممّا قدّره الجميع. وهذه الأصداء الطيّبة من المسلمين المعتزّين بها، أتتني أيضاً من المسيحيين من النوّاب الذين حضروا الجلسة ومن غيرهم، فور خروجي، وهي كلّها والحمد لله، فيها التقدير الذي أفخر به وأعتزّ.
مساءً، كلّمني الرئيس «أمين الجميّل» وقال إنّه فور نزوله إلى مكتبه في الساعة الخامسة، بعد المراسم، أراد أن يكون أول اتّصال له بي، ليشكرني ويقدّر لي ما قمت به، وأضاف أنّه لن يسير إلّا بما أشير عليه، فشكرته على كلّ ذلك، وشكرته على ما قام به، وتمنّيت له التوفيق.
وقد كانت كلمة «الوزّان» بعد انتخاب الرئيس جيّدة جداً، وشاملة لكلّ النقاط المطلوبة بشكل لا لبس فيه ولا إبهام. وحين قرأت ما ورد في وكالات الأنباء وجدت فيها أصداءً طيّبة، حتى من المتطرّفين ومن الشيوعيين، وفيها تعليق قيّم جداً من الأستاذ «نبيه برّي»، وتعليقات أخرى من غيره، فسُررت لذلك، وسنتابع على بركة الله.
وحين قلت للرئيس «أمين» في اتّصاله إنّ «تمّام» يريد أن يتّصل به، أجاب: «لا، هذا غير مقبول، أريد أن أراه في أسرع وقت ممكن، لأنّني أريد أن أكلّمه!»، وهذا عطفاً على الحديث الذي جرى بعد ترشّحه بينه وبين «سليم دياب»، ومع «تمّام» يوم ذهبا لتعزيته وتعزية والده ووالدته، وهناك جلس معه جلسة خاصّة، ووضع يده بيده، وقال له: «إنّنا نحبّ أن نتعاون على طول، وأؤكّد لك أنّ قلبي معك». وهو اليوم يصرّ على أن يرى «تمّام»، فلنرَ ما يكون، وإن شاء الله خير.

حديثي مع الرئيس «أمين» عن الوزارة

واستمرّ الضغط عليّ لأكون رئيساً للوزارة المقبلة، وأنا ممتنع حقيقة لأسباب كثيرة، لأنّني من خارج الحكم أكون أقوى كثيراً من أن أكون بداخله، فأساعد بذلك مَن يكون رئيساً، ولكنّ السؤال: مَن يكون؟ هل «تقيّ الدين الصلح»... وهو قد أصبح منزعجاً من هذا الواقع، ويقول للجميع إنّ «صائب» على رأسي وزعيمي وزعيمنا جميعاً، ولكن إن لم يكن «صائب» فلماذا لا أكون أنا ولماذا يكون غيري؟
وأنا لا أرى أنّ المجال مجال «تقيّ الدين الصلح» اليوم. ثمّ هنالك من يقول بـ«الوزّان»، ويأخذون عليّ لماذا تؤيّد «الوزّان» فتجعل منه وحده المسؤول من بين المسلمين، وأنت صاحب القول الأول والأخير، ولماذا لا تكون أنت؟ والجميع، مسلمين ومسيحيين، يصرّون على أن أكون أنا، لكنّي أصرّ في السرّ والعلن على أنّني لن أقبل، فيقولون: «ولماذا لا يكون تمّام؟»، وأنا أرى صعوبة أن يكون «تمّام»، وأتمنّى لو كان «بشير» حيّاً، لكان «تمّام» ومعه فريق من الشباب ليقوموا بعمل جديد، ولكن الآن الرئيس هو «أمين»، وهو برلماني وتقليدي، فلا أرى بوضوح بعد كيف سيكون مساره، وعلى كلّ فهو يلحّ على أن تكون له جلسة مع «تمّام» و«سليم دياب». «تمّام» يقول: «فليذهب سليم دياب حسب طلب أمين أولاً، فيجتمع به، وفي ضوء ذلك أرى ماذا نقرّر!».
وأذكر أنّه بعد مضيّ أسبوع، كان عيد الأضحى المبارك، فاتّصل بي صباحاً الرئيس «أمين الجميّل» ليعايدني، وطلب أن يراني، فأجّلت ذلك إلى اليوم التالي. وهكذا حصل. زرته وتغدّينا معاً، وأمضينا أكثر من ساعتين في حديث مستمرّ عن الأوضاع من جميع نواحيها، ووجدته منفتحاً إلى أبعد الحدود، وهو، كما كان قال لي - وأرسل يقول لي مراراً - يريد أن يستشيرني بكلّ كبيرة وصغيرة، وسيأخذ برأيي أولاً في الاعتبار في لبنان.
وفي الواقع، كان صريحاً في كلّ الأمور، وأنا ابتدأت معه بالصراحة ذاتها، فتكلّمنا في كلّ المواضيع ولم نترك شاردة أو واردة، ومنها طبعاً قضيّة الحكومة التي أخذت من وقتنا الشطر الكبير. وقد أصررت على ألّا أكون أنا رئيساً للوزارة، فقال: «على الأقلّ اترك لي الخيار مفتوحاً». قلت له: «أنا أخدمك من الخارج وأؤيّدك وأساعدك أكثر، وهذه قناعتي». ثمّ أخذَنا الحديث عن اثنين: «شفيق الوزّان» و«تقيّ الدين الصلح»، إذ قال إنّه لا يريد أن يخلق رؤساء وزارات جدداً. قلت له: «إنّ هذا عمل طيّب، لكن أنا أنصح بالوزّان»، لكنّني وجدته أكثر ميلاً إلى «تقيّ الدين». فقلت له إنّه غير مقبول، بينما «الوزّان» مقبول عندنا إسلامياً وقد أثبتَ أنّه كفؤ للعمل، وهو معطاء بالوزارة، ويمكنه أن يشتغل، أمّا «تقيّ الدين» فقد عفا عليه الزمن.
وعرفت أنّ إصراره على «تقيّ الدين»، من أسبابه أنّه يحبّ أن يكون له حكومة جديدة، فإذا أتى بـ«الوزّان» فتكون كأنّها استمرارية للعهد الماضي، وهذه نقطة معه حق فيها. وكان «تقيّ الدين» يعمل من الخارج، وقد حصل على تأييد «شمعون» وجماعته، لأنّه طبعاً يريد أن يستبعد «الوزّان». ثمّ اتّفقنا على أن يجري الرئيس استشاراته ابتداءً من الغد أو بعده، وعند انتهاء الاستشارات اتّفقنا على أن نتقابل أيضاً بصورة خاصّة ونرى ما يكون.
هذه خلاصة ما كان، لكن سأصرّ على «الوزّان» لأنّه في الواقع، في بيروت، وإسلامياً، له وقع أفضل، و«تقيّ الدين» قد لا يُنتظر منه الكثير بعد هذه السنّ، وهو لا علاقات محلّية كثيرة له، وإن كانت له علاقات خارجية، وإنّه واعٍ ومدرك، وأعترف بأنّه وطني يفكّر تفكيراً سليماً... وأنا محرج بهذا، لأنّني لا أحبّ أن أظهر بأنّني ضدّ «تقيّ الدين»، وهو يلازمني من أمد طويل، ويعلّق عليّ الآمال، وكلّ جماعته يردّدون لي باستمرار أنّهم لن يقبلوا بغيري رئيساً للوزارة، ولكن إذا أنا أصررت على ألّا أكون، فلماذا لا يكون «تقيّ الدين»؟!
هذا الحديث كان بيني وبين الرئيس سرّياً جداً، وقد تبادلنا الأسماء المقترحة للوزارات، وهو يصرّ على أن يكون «تمّام» فيها، قلت له: «تمّام لا يقبل أن يأتي الوزارة، ولو كانت الوزارة مختصرة وفيها شباب فقط، يكون هذا مجاله، ولكن اليوم لا يمكن أن يقبل». قال لي: «اترك لي تمّام»، قلت له: «عندنا شباب آخرون، عندنا سليم دياب وهو صديقه الحميم طبعاً، وهو من أحسن الشباب عندنا»، وسمّيت له أيضاً «أمين الداعوق»، فأيّد رأيي، وقلت: «ولكن لا يمكننا أن نتجاهل جميل كبّي...» فقام وحمل إليّ قوائم بأسماء النوّاب، ووضع اسم «جميل كبّي» على رأس القائمة.
ويبدو أنّه كان يركّز على «داني شمعون» على ما فهمت منه، وأنّه في ظلّ ما يجري من تقارب ومصالحة مع «آل فرنجيّة»، فقد لا يأتي بأحد من «آل فرنجيّة»، وربّما من بشرّي، وهو يميل إلى «آل طوق»، قلت له: «إنّ هنالك حبيب كيروز»، وأردت أن أبرّئ ضميري، لأنّ «حبيب» كان قد أتاني مراراً وألحّ ليكون وزيراً، وفي الواقع، إن طوق له كفاءته ومقدرته كشابّ.
وعن طرابلس لم يفكّر في أحد، فسمّيت له «عمر مسقاوي»، وهو محامٍ وشابّ ونظيف، ويمكن الاستفادة منه كثيراً. وفي قضيّة وزير الخارجية كان محتاراً، وبعدما سألته عن «غسّان تويني» قال: «غسّان له كفاءته العالية»، ووافقنا معاً على ذلك، وتابع: «لكنّ مشكلة غسّان أنّه يفتح على حسابه ولا يعود بإمكانك أن توقفه عند حدّه»، وبعد تردّد كثير قال: «سأذكر لك اسماً ولكن لا تذكره لأحد، وأرجو أن تبقيه سرّاً بيني وبينك، أنا أفكّر بشارل حلو». قلت له: «شارل حلو عفا عليه الزمن، وهو مهلهل، ولا يجوز أن يتسلّم حقيبة كهذه». قال: «أنا أريد أحد الذين يمكن أن يتعاطوا الخارجية، ويكون مقبولاً في البلاد العربية». ثمّ ذكر «بابكيان»، وأنّه ربّما كان يتمنّاه وزيراً ولكنّ الأرمن يرشّحون له «سورين خان أميريان»، فقلت: «إنّ بابكيان كوزير أقدر وأفعل»، قال: «أتمنّى أن أستفيد منه وزيراً، ولكنّهم يصرّون على سورين خان أميريان، ولو فكرّت بوزارة الخارجية لبابكيان لكان هذا غير معقول، أرمني، أعوذ بالله والبلاد العربية؟» لا، ليس هذا للبحث!
وفي تبادلنا الرأي أتينا على ذكر «كامل الأسعد»، وأنّه رشّح له مرّة أخرى «أنور الصباح»، فقال له: «يا كامل بك، أنور الصباح أنت تعلم أنّ له مساوئ وعليه شبهات كثيرة»، أجابه: «هذا صحيح، ولكن ليس عندي غيره». ثمّ سمّى جماعة «كامل» الثمانية، فلم يجد واحداً يصلح أن يكون وزيراً، قلت له: «أنا لا أنصحك أبداً به، لأنّك بذلك تشوّه وزارتك»، خصوصاً أنّني ابتدأت معه الحديث بما أبتدئ به مع كلّ رئيس جمهورية وهو قضيّة النظافة، قلت له: «أنت ابن الجميّل، ابن عائلة، تأتي اليوم بصورة جميلة جداً، وبما يشبه الإجماع، وأرجو أن تكون النظافة فيك وفي كلّ من حولك من وزارء وأهل القصر، وكلّ من يلتف حولك، حتى من أصدقائك، وإلّا فهذه نقطة سيّئة». وضربت له أمثالاً بما كان من حديثي مع «سركيس» و«فرنجيّة» يوم كنت وإيّاه ثلاث سنوات، ولم يشوّه اسمه أحد بكلمة، ثمّ يوم تركته كيف تردّى هو وابنته وابنه وكلّ مَن في زغرتا، ثمّ تردّت الدنيا معه بالرشى، فغدا الحكم كلّه مرتكباً... الحكم هيبة، والحكم ثقة، ومنطلق الثقة أن تكون النظافة في الحكم.
تكلّمنا أيضاً عن «المكتب الثاني»، ويبدو أنّه، وأنا أوافقه تماماً في ذلك، سيقطع دابره ولن يقبل بتدخّله في أيّ شيء، ثمّ لمته على ما قام به هو والرئيس «سركيس» يوم انتخابه بأن ذهبا مع «حبيب» وتغدّيا عند «جوني عبده»، فقال: «هكذا صار...» وكأنّه نادم على ذلك أو أنّه كان لذلك أسباب. ثمّ عن قائد الجيش قال: «هذا رجل لا فائدة منه، وأنا أفكّر بضابط شابّ وبرئيس أركان أيضاً يكون شابّاً وقديراً ويمكن أن نعتمد عليه». ثمّ تكلّمنا عن الإدارة، وهو مصمّم على أن يُمسك الإدارة بيد قويّة من حديد. فنبّهته إلى أنّه كرئيس طبعاً يجب أن يكون معه رئيس وزارة، فكيف اجتمعت أمس بـ«درايبر» وهو من الأجانب، بصدد استقدام قوّات أجنبية، ولم يكن معك رئيس الوزارة؟ قال: «سأستدعي خصّيصاً الوزّان ليكون معي، ولن يعاد ذلك بعد اليوم»، قلت له: «وهذا لا يجوز أيضاً عندما تجتمع بالمديرين، أو تجتمع بأحدهم، فيجب أن يكون معك دائماً الوزير المسؤول»، قال: «وهو كذلك... سيكون كذلك».
وسألته عن سفره إلى الأمم المتحدة، فقال: «أنا لا أشتهي الذهاب إلى الأمم المتحدة، ولكن الذهاب ستار لمقابلة ريغن، وهناك نجري مباحثات، فتكون لزيارتي فائدة، إذا وجدت من الضروري أن أذهب». قلت له: «إذا ذهبت إلى ريغن، وكما سمعنا يمكن أن تذهب من هناك لمقابلة ميتران»، قال: «هذا صديقي الشخصي»، فتابعت: «وهذا مفيد مع رئيس فرنسا، ومن هناك ستذهب إلى البابا، بعدها لا يجوز إلّا أن تذهب إلى بلد عربي كالسعودية مثلاً، فهي في مقدّمة البلاد العربية»، فتردّد، فقلت له: «هنالك تأليف حكومة وتسلّم حكومة، وستكون محرَجاً أن تترك البلاد في هذا الظرف»، قال: «أنا متردّد كثيراً، ولن أذهب إلّا إذا وجدت من الضرورة مقابلة ريغن»، قلت له: «تقابل ريغن إذا شئت وقت تشاء، لأنّي أحبّ أن أرى ما تستخرج منه فائدة للبنان».
وكانت هناك أبحاث طويلة في نواحٍ شتّى، طبعاً هذا أطال الحديث ساعات لم تذهب هدراً، فقد كانت مفيدة، وقد طلب منّي برجاء أن لا أعامله معاملة بروتوكولية، وأن نتواصل دائماً، وقال لي: «إن لم أتّصل بك فلماذا لا تتّصل أنت بي وتزورني دائماً، فأستفيد من البحث معك، ومن نصيحة مثل نصيحتك اليوم؟»، فوعدته بألّا يكون بيني وبينه حاجز، وتوافقنا على أن يتابع الاستشارات وأن أراه قبل أن يكلّف أيّ رئيس.
وبعد أن عدت، وصلتني برقيّة من «أبو عمار» يرجوني فيها العناية بالفلسطينيين، ويرجوني أن أهتمّ كلّ الاهتمام بمؤسّساتهم الصحّية، فكلّمته وعزّيته بالكارثة الكبرى التي وقعت على الفلسطينيين في المخيّمات، وعزّيته بصورة خاصّة بـ«أبو الوليد» (سعد صايل)، الذي عزّ عليّ كثيراً مقتله قبل يوم في بعلبك، لأنّه كان في الواقع من أحسن القادة الفلسطينيين الذين عرفتهم. ثمّ تكلّمنا في المواضيع والمنشآت الصحّية، فقلت له: «إنّ تمّام يعتني بذلك، مع العلم بأنّنا لا نجد منهم مَن نتّصل به كثيراً»، وكان الصوت ضعيفاً فلم أتمكّن من أن أستفيض معه بالحديث كي نتفاهم جيداً.