بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 آب 2022 12:01ص أسرار الانتخابات الرئاسية في مذكرات صائب سلام(6)

دمشق خاضت معركة سركيس ترغيباً وترهيباً ضد ريمون إدّه.. تغيّر موقف أبو عمّار بعد لقاء الأسد.. وحضور كتلة شمعون أمّن النصاب

حجم الخط
الإبحار مع مذكرات الرئيس صائب سلام هو في الواقع غوص في ثنايا تاريخ دولة الاستقلال، وما ميّزها من نجاحات باهرة حيناً، وما صادفها من كبوات موجعة وتحديات صارخة أحياناً. ذلك أن هذه المذكرات خرجت عن الصيغة التقليدية للسيرة الذاتية، وإهتم صاحبها بتأريخ لحظة الحدث أكثر من تركيزه على الرأي الشخصي أو الترويج لموقف سياسي، وهي بذلك تبقى مرجعا للباحث، وزادا للسياسي الصاعد، ومصدر إلهام وخبرة للأجيال الناشئة. 
من «لبنان واحد لا لبنانان»، في زمن الإنقسامات في الخمسينيات، إلى صيغة «التفهم والتفاهم» في زمن الصراعات وإنقطاع الحوارات في السبعينيات والثمانينيات، إلى الحرص على «لبنان الواحد بجناحيه المسلم والمسيحي» في زمن الإنتخابات العرجاء في مطلع التسعينيات. محطات لها تاريخ في مسار الوحدة الوطنية التي كان صائب سلام أبرز رموزها على مدى نصف قرن ونيّف.
ليس سهلاً الإحاطة، بهذه العجالة، بسفرٍ من ثلاثة أجزاء ويضم ألف وسبعمائة صفحة، فكان لا بد من إختيار محور واحد يتناسب مع الأحداث التي يعيشها لبنان حالياً، وهل ثمة أنسب من محور الإنتخابات الرئاسية، والبلد اليوم يعيش أجواء الإستحقاق الرئاسي في مرحلة من الإضطراب وعدم الإستقرار.
الحلقات ستغطي تباعاً أسرار الإنتخابات الرئاسية من إستقالة الشيخ بشارة الخوري إلى إنتخابات الرئيس إلياس الهراوي، وما تخللها من مناورات وصفقات وكرّ وفرّ هي من سمات المعارك الإنتخابية في لبنان.

هكذا أصبح «سركيس» رئيساً للجمهورية

في جلسة المجلس النيابي التي عُقدت في 17 نيسان/أبريل، اقتصر البحث تقريباً على مسألة المعركة الرئاسية التي يبدو أنّها بدأت، وخصوصاً أنّ عدداً من النوّاب والحاضرين، ومن بينهم «غسّان تويني» و«محمّد يوسف بيضون»، بدأوا يحاولون التخلّي عن «إدّه» وإقناعي بذلك، وإن مواربةً، لكنّني رفضتُ بحث ذلك الأمر رفضاً باتّاً! بعد ذلك هتف لي «أبو عمّار» وهنّأني على تصريحي الذي علّقتُ فيه على زيارته لي أمس واتّفاقهم مع سوريا، وقال لي إنّني في ما يختصّ بإشارتي إلى مسألة رفض التعريب «كنت رائعاً... رائعاً!».
بعد أيّام، عاد من السعودية ابني «فيصل» الذي كان هناك قد قابل الأمير «فهد» بحضور «رشاد فرعون»، وقد أكّد له الأمير «فهد»، مرّة أخرى، تمسّكهم بـ«إدّه» وتأييدهم له، وحدّثَه عن محاولاتهم الجادّة والمستمرّة مع السوريين لإقناعهم. قال «فيصل» إنّ هذا الحديث جرى قبل عودته إلى بيروت بيوم واحد. وأكّد لي أنّه ألحّ على الأمير «فهد» بضرورة عودة «علي الشاعر» إلى بيروت، فوعده بأن يعود فوراً. وبالفعل، عاد «علي الشاعر» وحضر إلى منزلي، مباشرة من المطار حسب تعليمات الأمير «فهد». «علي الشاعر» أكّد لي أنّ السعوديين لا يزالون يؤيّدون «إدّه»، ولكن هناك عقبة أساسية تتمثّل في موقف سوريا. لقد حاولوا كثيراً مع السوريين، كما قال لي «الشاعر»، حتى إنّ الأمير «فهد» قال لهم إنّه هو الذي يضمن «إدّه» شخصياً بصدد موقفه من سوريا والعرب عموماً، كما أنّه أفهمهم أنّه على استعداد لدفع كلّ ما يلزم لذلك! ولكن عبثاً. صحيح أنّهم قالوا إنّهم لا يتمسّكون نهائياً بـ«إلياس سركيس»، ولكنّهم في المقابل لا يقبلون بـ«إدّه»، وربّما يبحثون عن شخص ثالث. على أيّ حال، اتّفقوا مع السعوديين، كما كانوا قد اتّفقوا مع «أبو عمّار»، على أن يتركوا اللبنانيين «ينتخبون رئيسهم بشكل ديمقراطي دون أيّ تدخّل من هنا أو من هناك». واضحٌ أنّ هذا الاتّفاق يشبه اتّفاق التحكيم وموقف «أبي موسى الأشعري» منه: إذ ستكون النتيجة أن يستنكف السعوديون والمقاومة عن التدخل، بينما يبذل السوريون كلّ ما لديهم من نفوذ للوصول إلى فرض مَن يريدون فرضه!
وبالفعل ما إن حلّ يوم الثلاثين من نيسان/أبريل، حتى كان التدخّل قد بلغ أعلى مستوياته، فهم أمسكوا بـ«كامل الأسعد» و«كتْلته»، ثمّ بـ«جوزف سكاف» وجماعته، وراحوا يمارسون عليهم شتى أنواع الضغط. أمّا بالنسبة إليّ فها هم يرسلون لي الرسول بعد الرسول طالبين منّي تحديد ما أريد، قائلين إنّهم على استعداد للتلبية. وكان هذا نفسه ما أخبرني به «علي الشاعر» يوم عودته من السعودية، مضيفاً رجاء «فهد» بأن أستخدم ما لديّ من حكمة بحيث أتفادى أيّ تصادم مع السوريين. أنا، حتى اليوم، لم أصطدم بهم علناً رغم كلّ ما يفعلون، ولكنّني أعمل ضدّ عملهم بكلّ ما لديّ من وسائل، لقناعتي بأنّ هذا في مصلحة لبنان، وفي مصلحة سوريا أيضاً، وخصوصاً في مصلحة «منظمة فتح» التي أرى أنّ السوريين يريدون تدجينها لتصبح تابعة لهم مثل «منظمة الصاعقة». لذلك فإنّهم يلجأون إلى كلّ أنواع الضغط على النوّاب بغية الإتيان بـ«إلياس سركيس»... لذلك سأظلّ متمسّكاً بـ«ريمون إدّه»، الذي أعرف عنه صراحته وصدقه وأخلاقه وماضيه اللامع ومواقفه ضدّ العنف المسيحي والمؤامرات الأميركية. في المقابل، كنت أمجّ لدى «إلياس سركيس» سابق علاقته مع «المكتب الثاني» وقذارة الحاشية المحيطة به والساعية إلى إنجاحه، فضلاً عن كونه مرشّح «سليمان فرنجيّة»، ما سيجعل عهده امتداداً لعهد هذا الأخير ولفساده... من ناحية أخرى، بدأت تلوح منذ أيّام فكرة اختيار شخص ثالث، وكان مبعث هذه الفكرة في رأيي، «كامل الأسعد»، الذي لا يرغب بـ«إلياس سركيس» ولا يريد أن يجارينا بـ«ريمون إدّه». وقد توجّه «الأسعد» إلى دمشق فور صدور تعديل المادّة 73، وقبل أن يعيّن الجلسة الانتخابية، وكان ذلك عملاً سيّئاً، لأنّ الناس جميعاً كانوا ينتظرون بالأيّام والساعات إعلان هذا التصديق لتعيين جلسة الانتخاب. لذلك فإنّ الناس لم يستسيغوا أن يؤخّر «الأسعد» تعيين جلسة الانتخاب، ولا أن يسافر قبلها إلى دمشق لـ«يتلقّى التعليمات» حسبما قال منتقدوه! مهما يكن، فإنّ الجميع أبدوا اعتقادهم بأنّ تصرّفات «كامل الأسعد» بعد عودته لم تكن سوى تنفيذٍ لتعليمات دمشق، أو لاتّفاقه معها. وفي هذه الآونة، ها هو الرئيس «حافظ الأسد» يستدعي الجميع إلى دمشق فيلبّون، وكان من أبرز مَن ذهب إلى هناك «جوزف سكاف» وكتلته، الذين عادوا وقد عدّلوا موقفهم بعد ضغط دمشق السياسي، ومن ناحية ثانية تحت وطأة الضغط العسكري الذي راح يمارَس عليهم في زحلة. وفي تلك الآونة نفسها كان باقي النوّاب يتعرّضون للضغوط من قبَل «زهير محسن» و«الصاعقة» والضبّاط السوريين، كما من قبل قيادات «حزب البعث» التابع لسوريا («سهيل سكّرية» ورفاقه).
واليوم كان موعد «كميل شمعون» وكتلته ليتّخذوا موقفاً نهائياً، وفي خضمّ بحْث ذلك وقع حادث مؤسف ساعة الاجتماع، حين أُبلغ «شمعون» بخبر اختطاف ابن أخيه، فلم يعدْ بالإمكان متابعة أيّ شيء معه.
يوم السبت الأول من أيّار/مايو 1976، كانت الصورة قد بدأت تتشابك وتتّضح في الوقت نفسه، إذ بعد نهار أمس الطويل، الذي فشلتْ فيه اجتماعات «كامل الأسعد» و«تجمّع الثلاثين نائباً»، في مسعى للاتّفاق على شخص ثالث، ضغطنا على «كامل الأسعد» الذي استجاب، فأجّل الاجتماع الذي كان يُفترض بالمجلس أن يعقده في ذلك اليوم، إلى السبت المقبل، مستنداً في ذلك إلى تعكّر الأجواء السياسية والأمنية، تعكّراً شكّل نكسة للجهود السورية في لبنان. وأذكر في هذه المناسبة أنّ «زهير محسن» والمسؤولَين العسكرييْن السوريين «محمّد الخولي» و«محمّد المدني» كانا قد زارا «الأسعد» أمس، وأبديا إصرارهما على عقد الجلسة الانتخابية في موعدها، لكنّ «الأسعد»، استجابة لضغطنا، عمد إلى تأجيلها، وقد ولّد ذلك التأجيل ارتياحاً عامّاً، بسبب ما شعر به السياسيون والرأي العامّ من اشتداد الضغط السوري.
خلال زيارة قمت بها لـ«أبو عمّار» عند مساء ذلك اليوم نفسه، ووجدت لديه «جنبلاط» و«أحمد الخطيب» («جيش لبنان العربي»)، التقيتُ بـ«هاني الحسن» العائد من القاهرة حيث كان قد أمضى عدّة أيّام اجتمع خلالها بـ«أنور السادات» وعدد من معاونيه. وقد أخبرني «الحسن» أنّ زيارته للقاهرة كانت موفّقة جداً، ولا سيّما من حيث إعادة الأمور إلى مجاريها الطبيعية بين القاهرة و«المقاومة الفلسطينية»، وهو أمر وردتْ إشارة إليه في خطاب ألقاه الرئيس المصري في ذلك اليوم نفسه. وقد قال لي «الحسن» أيضاً إنّه تمّ خلال تلك الزيارة وضع أسس واضحة لارتباط «المقاومة الفلسطينية» بمحور يضمّها مع السعودية ومصر، وأكد أنّ المحور لن يكون موجّهاً ضدّ سوريا، بل إنّه يسعى لإدخال سوريا فيه، بما سيخدم سوريا نفسها والفلسطينيين ويكون فيه فائدة للبنان. ولا بدّ أن أشير هنا إلى أنّه كانت لي يد كبيرة في دفع «أبو عمّار» لإرسال «هاني الحسن» إلى مصر، إذ كان رأيي – ولا يزال – أنّه لا ينبغي للمقاومة أن تقطع جسورها مع مصر، لأنّ ذلك يتركها بين أيدي السوريين وتحت رحمتهم. وعموماً، حتى على صعيد التحرّك العالمي، لا يتعيّن على الفلسطينيين، أبداً، أن يبتعدوا عن مصر، مهما كانت أسباب ذلك ومبرّراته.
مهما يكن، فإنّ «هاني الحسن» عاد وزارني في صباح اليوم التالي ليشرح لي تفاصيل زيارته لمصر ناقلاً إليّ سلاماً خاصّاً من رئيس الحكومة المصرية «سيد مرعي». فلمّحت له بأنْ يتابع مساعيه ويتوجّه هذه المرّة دون تأخير إلى السعودية، وهو ما كنت قد لمّحت به إلى «أبو عمّار» خلال لقائنا قبل يوم، بعد ذلك هتفتُ للموفد الأميركي «دين براون» الذي كان قد عاد من واشنطن، ودعوتُه لزيارتي، فجاء سريعاً، ليدور بيننا حديث طويل ومفيد، وكان الاجتماع ذا مغزى، إذ إنّ جميع الصحافيين هنا اهتمّوا بالأمر، لأنّه كان أوّل اجتماع يعقده «براون» مع سياسيّ لبنانيّ بعد عودته. وأنا، من جهتي، كان همّي أن أُفهمه أنّ سوريا تخطئ في تصرّفاتها وفي إصرارها على المجيء بـ«إلياس سركيس» رئيساً للجمهورية، كما في وقوفها ضدّ «ريمون إدّه». وشرحتُ له بالتفصيل ما يؤدّي إليه ذلك من ضرر، إذ إنّ «سركيس»، أو أيّ مرشّح ثالث ترتئيه سوريا، سيكون وصوله إلى الرئاسة كارثة لا يجوز أن تكون من نصيب لبنان، بعد أن تُطوى صفحة كارثة عهد «فرنجيّة». وكانت كلّ الحجج التي أوردتُها لدعم ذلك الرأي منطقية وقويّة، إلى درجة بدا لي «دين براون» معها مقتنعاً بأنّه لا يجوز أن يقع الأميركيون في خطأ يندمون عليه لاحقاً!!
يوم الخميس في السادس من أيّار/مايو، كانت المعركة الانتخابية قد تطوّرت بنحو خطير، وذلك بعد التدخّل السوري مع النوّاب، وهو تدخّلٌ اتّخذ كافة وسائل الضغط والترغيب والترهيب، في وقتٍ أحجم فيه الفرقاء الآخرون عن أيّ تدخُّل... وهكذا لاحظنا كيف سكتتْ تباعاً أصوات العراقيين ثمّ «فتح»... وخاصّة «فتح»!
بالنسبة إلى الرأي العامّ الإسلامي، كان الموقف واضحاً: إنّه مع «ريمون إدّه»، لكنّ النوّاب الذين يمثّلون هذا الرأي العامّ كانوا يتلاعبون، ويتمّ التلاعب بهم ولا يصمد منهم إلّا القليل القليل. وأنا من جهتي جمعتُ نوّاب بيروت، مثل «محمّد يوسف بيضون» و«جميل كبّي» و«عثمان الدنا» و«زكي مزبودي»، بناءً على طلب هذا الأخير، وقد تغيّبَ «رشيد الصلح» عن أوّل اجتماع، لكنّه حضر الثاني. ولفت نظري إلى أنّ «عثمان الدنا» و«زكي مزبودي» يحاولان التلاعب، فـ«رشيد الصلح» صار مؤيّداً لـ«إدّه»، بعد أن هاجمت «الصاعقة» بيته. إذن، اجتمع عندي عدد من النوّاب وكان اتّجاههم العامّ يسير نحو تعطيل الجلسة الانتخابية وخصوصاً أنّ «كامل الأسعد» ومكتب المجلس قرّرا أن المجلس لا يجتمع إلّا إذا اكتمل نصاب الأكثرية بالثلثين، أي إنّ المطلوب 66 نائباً لعقد الجلسة. مساء ذلك اليوم نفسه، اجتمعتُ بـ«أبو عمّار» في حضور «أبو أياد» و«أبو صالح» و«أبو الوليد». وكان «أبو عمّار» على وشك التوجّه إلى دمشق بطلبٍ من الرئيس «حافظ الأسد»، وكان شديد الاضطراب بسبب تخلّي السعودية عن تأييدنا وتأييد «فتح» بالنسبة إلى الموقف من ترشيح «ريمون إدّه». وقرّر «أبو عمّار» وصحبُه تصعيد القتال هذه الليلة لكي تُعطَّل جلسة الغد!
من ناحيته، أعلن «شمعون» أنّه وحزبه قد قرّرا تأجيل اتّخاذ قرارهم النهائي حتى يوم غد وكذلك فعل «الأسعد» وكتلته. مهما يكن، لا بدّ من أن أذكر هنا أنّ «شمعون» كان هو وثلاثة من نوّاب حزبه قد قرّروا تأييد «سركيس»، بينما عارض ذلك أربعة نوّاب آخرين. وكان هذا الانقسام في الموقف السبب الذي جعل «شمعون» يؤجّل قراره النهائي إلى الغد، فإذا لم تنعقد الجلسة فإنّ ذلك سيتيح لنا فرصة طيّبة لمعاودة بحث الأمر من جديد، مع «شمعون» ومع غير «شمعون» أيضاً! على أيّ حال، كان من الواضح عموماً، أنّ كفّة «سركيس» باتت مرجّحة، وأنّ عدد مؤيّديه أخذ يتزايد.
من جهتي أرسلتُ «حسين منصور» إلى «كامل الأسعد» فاتّفق معه على أن يماشينا في تأييد «إدّه»، لكن يوم الجمعة في السابع من أيّار/مايو، تبدّلت الصورة تماماً... بعد عودة «أبو عمّار» من دمشق، حيث اتّضح لي أنّ «المقاومة الفلسطينية» قد خذلتْنا! وهنا مرّة أخرى أجّل «شمعون» وحزبُه اتّخاذ قرارهم إلى الغد – وكانت الجلسة قد تأجّلت يوماً بسبب الأوضاع الأمنية – وخُوّل «شمعون» اتّخاذ القرار خلال الجلسة إذا عُقدت! مساء ذلك اليوم حضر إليّ «أبو عمّار» و«أبو أياد». صحيح أنّ «أبو عمّار» لم يخبرني من فوره بما دار بينه وبين «حافظ الأسد»، لكن اغبرار وجه الاثنين جعلني أفهم كلّ شيء. قبل يومين كان «أبو عمّار» يقول لي إنّه سيعطّل الجلسة بالقوّة مهما كان الأمر، أمّا الآن، فقد أظهر لي بوضوح أنّه قد يكون راغباً في ذلك لكنّه لن يقْدم عليه، بل لن يشارك فيه إنْ أقدم عليه أحد غيره! بقي أن نرى ما إن كانت الأحزاب والقوى الأخرى التي يتزعّمها «كمال جنبلاط»، والتي كانت قد هدّدت بنسف الجلسة ستتمكّن من ذلك. المهمّ أنّه إذا حدث حقاً وتعطلت الجلسة، فإنّ ذلك سوف يفتح أمام الجميع آفاقاً جديدة.
لكن الجلسة لم تتعطّل، بل عُقدت بالفعل يوم السبت في الثامن من أيّار/مايو 1976. وكان سبتاً أسود آخرَ، أكثر سواداً وخطورة من كافة أيّام السبت السوداء، التي سبقتْه. لقد حضر جلسة الانتخاب 69 نائباً، وتغيّب 29، وكان من بين المتغيّبين كتْلتنا وكتلة «ريمون إدّه» وكتلة بعلبك. في تلك الجلسة فاز «إلياس سركيس» بـ66 صوتاً، فكان انتصاره وانتصار السوريين كبيراً.
أول النهار كان الجميع يعتقدون أنّ الجلسة لن تُعقَد، إذ إنّ القصف المدفعي كان قد اشتدّ طوال الليل، وسيطر على البلد كله جوّ أسود من الإرهاب. لكنّ قوى المال من جهة وتدخّل سوريا (ولا سيّما «الصاعقة») من جهة أخرى، بدّلا الأمور. فـ«الصاعقة» كانت تُرغِم النوّاب على الحضور بجرّهم من بيوتهم تحت حراسة المصفّحات والمسلحين. وهذا كلّه أدّى إلى اكتمال النصاب بأكثرية تفوق الثلثين، فعُقدت الجلسة. وكان الشعب اللبناني بأسره يتابع مسرحية وصول النوّاب إلى مكان الاجتماع المؤقّت (قصر «منصور») بأعصاب متوتّرة. غير أنّ مصير الجلسة ظلّ في عالم الغيب حتى حضر «شمعون» وكتلتُه فرجَحتْ كفّة الانعقاد، بعدما وصل العدد إلى 69 نائباً. 
بالنسبة إلينا، كانت الغاية من انتخاب «ريمون إدّه» بعث الثقة في نفوس أبناء الشعب، فجاءت نكسة الإتيان بـ«إلياس سركيس» لتُشيع القنوط واليأس، وحتى القهر عند الأكثرية الساحقة من المسلمين. وكان واضحاً أنّ بعض النواب المسلمين – على عهدنا بهم – قد خانوا الرأي العامّ الإسلامي، خوفاً أو تكسّباً، لا فرق!
وقد كانت غايتنا الأخرى من انتخاب «إدّه»، أن يؤدّي ذلك الانتخاب إلى استقطاب أكثرية مسيحية تنقلب على «حزب الكتائب» وتراجع ما صدر عنه من وحشيّةٍ وتقتيل وتخريب للبنان، فتنتهي أسطورة هذا الحزب الذي يشكّل في رأيي واحداً من المعضلات الرئيسية التي تعترض سبيل هذا البلد. ومن ناحية أخرى، كنّا واثقين بأنّ «ريمون إدّه» هو الوحيد الذي يمكنه، بعقلانية واعتدال، أن يقف في وجه المدّ اليساري الشيوعي، فينزع بذلك تلك الهالة التي أحاطت بـ«جنبلاط»، منهياً أسطورتَه هو الآخر.
كانت غايتنا، التي لم نتوصّل إليها، إذن، تخليص لبنان من عقبتين كبيرتين: ممارسات «الكتائب»، ومزاجية «كمال جنبلاط» وتحالفاته.
كان هذا كله غايتنا، إضافة إلى أنّ «إدّه» كان بإمكانه أن يتعاون أفضل تعاونٍ مع «أبو عمّار» وقيادات المقاومة، ما يضع حدّاً لممارسات متطرّفيها، ولا سيّما تنظيم «الصاعقة».
لقد أردنا هذا كله، لكنّنا هُزمنا، وجاء «إلياس سركيس» بذلك الشكل المخزي، ما جعلنا نصلّي لربّنا، ليلاً ونهاراً، أن يحمي لبنان ممّا هو أعظم.