اشتدّت المعارضة لـ«بشارة الخوري» كما توقعت، واتّخذت طابعاً وطنياً حيث اجتمعت في جبهة معارضة واحدة شخصيات إسلامية ومسيحية مثل «كميل شمعون»، «كمال جنبلاط»، «ريمون إدّه»، «غسّان تويني» و«عبد الله الحاج» ومجموعة الهيئة الوطنيّة الإسلامية، وفيها تمثيل إسلامي واسع. أنا شخصياً لم أشترك في هذه الجبهة، ومع ذلك ظلّ «بشارة الخوري» على موقفه غير الراغب في تكليفي تشكيل الحكومة. ولتفادي تكليفي، كلّف للمرّة الأولى في عهد الاستقلال موظفاً هو «ناظم عكّاري»، الأمين العام لمجلس الوزراء، الذي شكّل حكومة ثلاثية تضمّه مع موظفَين اثنين: هما الماروني «موسى مبارك» والأورثوذكسي «باسيل طراد». ولم تصمد تلك الحكومة في وجه المعارضة العارمة، فأرسل «بشارة الخوري» طالباً منّي زيارته ليقول لي: «البلد يا صائب في خطر ووحدك تستطيع إنقاذه». فأجبته بأنّه أوصل القضيّة إلى نهايتها و«هي ليست مسألة حكومة، بل المطلوب يا فخامة الرئيس هو رأسك واستقالتك من رئاسة الجمهورية». وأكّدت له أنّني سأحاول إنقاذ الوضع رغبة منّي في الحفاظ على المؤسسات الدستورية وعلى نظامنا الديمقراطي، واشترطت لقاء ذلك إعطائي صلاحيات مطلقة في تشكيل الحكومة وفي إصلاح أجهزة الدولة التي يشكو منها المواطنون، فوافق «بشارة» على هذا الطلب. وهذا الموقف من رئيس حكومة مكلّف كان سابقة تاريخية لم تقع في لبنان منذ الاستقلال.
شكّلت حكومة مؤقتة على غرار الحكومة الثلاثية السابقة، مبقياً الوزيرين «مبارك» و«طراد»، ريثما أتمكّن من تشكيل حكومة مستقرّة جديدة. وفي تلك الأثناء، ورغبة منّي في تأكيد تصميمي على التغيير، عملت على إصدار مرسوم من مجلس الوزراء بإقالة جميع المديرين العامّين، حيث كانت قد بلغت شكوى المواطنين من سيطرة المديرين حدّها الأقصى، وكان عددهم أربعة عشر مديراً. وقّعت المرسوم كما وقّعه «بشارة الخوري» بالأحرف الأولى من اسمينا، ما أثار بعد ذهاب «بشارة الخوري» لغطاً دستورياً حول ما إن كان هذا «الباراف» بمثابة التوقيع أم لا؟ وكانت النتيجة أن ثبت دستورياً أنّ «الباراف» هو توقيع، فتمّ صرف المديرين العامّين الأربعة عشر بموجب ذلك المرسوم.
بدأت اتّصالاتي لتشكيل حكومة مستقرّة أرضى عنها، في الوقت الذي ظهرت فيه عصبية «بشارة الخوري» نتيجة الأخبار الصحافية الأجنبية المتداولة، عن أنّه الرأس المطلوب بعد أول انقلاب في سوريا عام 1949، ثمّ الثورة المصرية عام 1952، وخلع الملك «فاروق» في مصر، فكان «موسى مبارك» يقول لي مشيراً إلى بشارة الخوري: «ماذا تنتظر، والرئيس يكاد يضطرّ إلى الرحيل».
اتّصلت بـ«أحمد الأسعد» رئيس المجلس النيابي، الذي أخذ يماطل بإعطاء الجواب بشأن قبوله الاشتراك في الحكومة، فكان يوافقني ثمّ يذهب إلى سوق الغرب، حيث كان يصطاف، لاستشارة زوجته المعروف عنها بإجراء «الاستخارة» في كلّ مواقفه، ويعود غير موافق. وربّما لم يكن يريد الوزارة كي لا يتخلّى عن رئاسة المجلس.
أمّا «شارل مالك»، سفيرنا في نيويورك، وعبر الاتصالات البرقية معه، فقد وضع شروطاً قاسية للموافقة على اشتراكه في الوزارة: مرّة يريد وزارة الخارجية، ومرّة يشترط القيام بإصلاحات غير معقولة في صلب النظام، وكلّ ذلك عبر المراسلات البرقية. وأعتقد أنّ مماطلة «شارل مالك» تعود، على الأرجح، لتدخّل «حميد فرنجية» معه، وربّما لتأثير الأميركان عليه.
وقد سعت المعارضة لتأجيج حملتها وإثارة الرأي العامّ، فأرسلت رئيس نقابة بائعي الخضار «يوسف دوغان» خفية إلى سوريا، لتشيع بين الناس أنّ السلطة خطفت «دوغان»، فقامت التظاهرات مستنكرة ومطالبة بإيجاد المخطوف، في الوقت الذي كان فيه «دوغان» يمضي إجازة ترفيهية في سوريا، وقد أتى «دوغان» نفسه إليّ في ما بعد يخبرني عن تفاصيل رحلته إلى سوريا وكيف أنّ «الهيئة الوطنيّة» (وهي هيئة إسلامية) رتّبت له كافة إجراءاتها. وكانت نقابة بائعي الخضار من أفضل النقابات في إنجاح أيّ إضراب.
أزمة 1952 وتنحية «بشارة الخوري»
وتنامت حملة المعارضة الشعبية، ما رسّخ قناعتي بعدم إمكانية استمرار «بشارة الخوري»، وأصبح همّي الأول تنحّيه بأسلوب يليق به وبرئاسة الجمهورية، ولا يعرّض النظام والمجتمع لهزّات عنيفة واضطرابات، فقرّرت توجيه كتاب إليه أطالبه بالتنحّي، وهذا كان قد أصبح مطلباً لأكثرية اللبنانيين، وبناءً عليه، كان من العبث العمل على استمرار «بشارة الخوري» في الرئاسة.
صباح يوم 14 أيلول/ سبتمبر 1952، وضعت مسوّدة كتاب الاستقالة، ثمّ انتقلت إلى وزارة الخارجيّة حيث وضعت الكتاب المذكور على أوراق الوزارة الرسميّة، إذ كنت أيضاً وزيراً للخارجيّة. وهناك تلقيت اتّصالاً من «سعدي المنلا» و«رشيد كرامي» و«عبد الله اليافي»، الذين حضروا إليّ لإبلاغي بحالة الهيجان الشعبي، وليؤكّدوا أنّهم لن يتعاونوا مع «بشارة الخوري» في حال تقديمي استقالتي. فأكّدت لهم أنّ هذا التعهّد لا يهمّني على الإطلاق، فإنّ من يريد الحكم يتحمّل مسؤوليته شخصياً، إلّا أنّهم أصرّوا على وضع كتاب التعهّد ووقّعوه أمامي. عدت إلى مكتبي في السراي، وأطلعت «ناظم العكاري» على كتاب الاستقالة، ثمّ استدعيت اللواء «فؤاد شهاب» قائد الجيش، فحضر إلى مكتبي في السراي عند الساعة الواحدة، حيث أطلعته على كتاب الاستقالة، وطلبت منه توفير الحماية للرئيس ولذويه.
في هذه الأثناء، تلقيت عدّة اتّصالات من «بشارة الخوري»، وكان قلقاً جداً ويلحّ بالسؤال تكراراً: «ماذا أسمع؟ ماذا جرى؟».
بعدها، حضر إليّ «أحمد الأسعد» وأطلعني على عريضة جبهة المعارضة. ثمّ زارني كلّ من «هنري فرعون» و«باسيل طراد» و«موسى مبارك» و«أحمد الأسعد» و«عبد الله اليافي» و«رشيد كرامي» الذين وافقوا جميعهم على مضمون كتاب الاستقالة، باستثناء «فرعون» الذي اعترض على كلمة «فوراً» التي وردت في سياق طلب استقالة الرئيس، وفضّل حذفها، وطلب منّي الاجتماع بنسيبه «ميشال شيحا»، صاحب النفوذ الكبير عند «بشارة»، وهو نسيبه أيضاً، فحدّدت له موعداً في وزارة الدفاع إذ كان في برنامجي، وأنا في طريقي إلى عاليه، أن أمرّ بها لاصطحاب «الجنرال شهاب».
وفي وزارة الدفاع، حاول «شيحا» إقناعي بالعدول عن طلب تنحّي الرئيس، فأكّدت له أنّ الوضع لم يعد يحتمل مزيداً من المماطلة، فالبلد يحترق، وخير قرار يتّخذه «بشارة» هو سفره مع أفراد عائلته. ثمّ تابعت: «محبّتي الخاصّة لبشارة وتقديري له باقية كما هي، لكنّ مصير بلدي وشعبي يفرض عليّ هذا الموقف، وأنت شخصياً مع هنري فرعون لم تعودا قادرين على تحمّل المزيد».
وافق «شيحا» على قولي، ولكنّه كرّر طلب فرعون بحذف كلمة «فوراً» من كتاب الاستقالة ففعلت. وكنت قد اتّفقت مع «موسى مبارك» على ملاقاتي في منزل «باسيل طراد» في عاليه، القريب من منزل الرئيس «الخوري». فذهبت مع اللواء «شهاب» و«مبارك» و«طراد» إلى منزل «بشارة الخوري»، ودخلنا وسط حشد من أنصاره، وكثير منهم بسلاحه الظاهر وينظرون إليّ شزراً.
اجتمعت مع «بشارة الخوري» بوجود الوزيرين واللواء «شهاب»، فبدأ حديثه، وهو بعصبيّة شديدة، منوّهاً بالنظام الديموقراطي، ليستطرد مستغرباً اتّخاذي موقفاً ينسجم مع مواقف الأقلية النيابية ويتعارض مع أكثريتهم. فقلت له صراحة إنّ موقفي نابع من اتّجاهات الأكثرية الشعبية، من مسلمين ومسيحيين، التي تطالب بتنحيته عن الرئاسة. ولما تابعنا الحديث سلّمته كتاب المطالبة بتنحّيه، فرفض تسلّمه بحجّة أنّه يعرف مضمونه، فأجبته بأنّ «من واجبي تسليمك إيّاه»، وأصررت على تسليمه له، فأخذه ولم يقرأه لأنّه كان قد تبلّغ مضمونه من «ميشال شيحا».
وهنا نصّ الكتاب المدوّن في 14 أيلول/ أبريل 1952:
حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية
بعد تقديم وافر الاحترام،
أتشرّف بأن أعرض لفخامتكم أنّني إذ قبلت شرف مهمّة الحكم التي اضطلعت بها في بلدي العزيز، في هذا الظرف العصيب، كنت شاعراً أنّني ألبّي نداء الوطنيّة للقيام بما يطلبه لبنان من إصلاح ولمحاولة تجنيبه مهاوي الفوضى التي كادت تعمّ البلاد والعياذ بالله.
ولكنّني بعد أن باشرت عملي وسرت ببعض خطى الإصلاح التي يطالب بها الناس والتي لاقت ولا شك ارتياحاً عامّاً وتحبيذاً من الجميع، شعرت بعد أن تجمّعت لديّ عناصر التقدير، أنّ أهل هذا البلد لم يعد يرضيهم شيء أقلّ من اعتزال صاحب السلطة الأولى في الدولة.
فاسمحوا لي، وأنا من صميم هذا الشعب، ولا أستهدف في عملي سوى مصلحته العليا، أن أصارحكم أنّ مصلحة البلد العليا اليوم أصبحت تتطلب تخليكم عن سدّة الرئاسة الأولى وإفساح المجال لنوّاب الأمة لانتخاب خلف لكم في نطاق الدستور الذي اؤتمنتم عليه.
وبهذا تكونون يا فخامة الرئيس، قد أدّيتم لبلدكم خدمة جلّى تضاف إلى الخدمات السابقة التي سجّلها لكم تاريخ الجهاد اللبناني في عهده الاستقلالي الحاضر.
فأناشد وطنيتكم النزول عند رغبة الشعب الإجماعية تفادياً للعواقب. وتفضّلوا يا صاحب الفخامة بقبول أسمى عبارات التقدير والاحترام.
صائب سلام
ثمّ صعد «بشارة» إلى مكتبه في الطابق العلوي، واستدعاني وحدي في ما بعد، فوجدت عنده المير «مجيد أرسلان» و«فيليب تقلا». حاول جاهداً أن يثنيني عن موقفي بمساندة من المير «مجيد» و«فيليب تقلا» حتى وصل إلى القول: «أنت معروف بالصمود والشجاعة والجيش في تصرّفك، فلماذا تخشى الغوغاء؟» فأجبته بأنّها ليست غوغاء، ولكنّها إرادة شعبية عارمة، فقال لي إنّ حركة تشبه هذه قامت من قبل وكان على رأسها «عبد الحميد كرامي» و«رشيد جنبلاط» ووقفت قوى الأمن في وجهها في تظاهرة جرت في صوفر. فأجبته بأنّني على علم بذلك ولكنّني لست مستعدّاً لتوجيه النار إلى أبناء وطني، الذين أصبح عندهم ما يشبه الإجماع على المطالبة بهذه التضحية.
وطلب منّي «بشارة» الاجتماع بالنوّاب الذين كانوا قد تجمّعوا في الطابق الأرضي مع رئيس المجلس «أحمد الأسعد». فنزلت إلى الطابق الأرضي للاجتماع بالنوّاب، الذين تمحورت مناقشاتهم حول الأقلّية المعارضة والأكثرية الموالية، خصوصاً أنّ من بين المعارضين «جنبلاط» و«إدّه» و«عبد الله الحاج»، وهم من تيّار «الإديين» أي الذين ينتمون إلى «إميل إدّه» وفرنسا. فعدت وكرّرت لهم أنّني ملتزم بما أشعر به تجاه المشاعر الشعبية المسيحية والإسلامية، ولا علاقة لي بالحزبية الضيّقة ما بين «الدستوريين» و«الإدّيين». ثمّ إنّني اتّخذت قراري بطلب تنحّي «بشارة» قبل علمي بالعريضة النيابية.
ولمّا فشلوا في الوصول معي إلى نتيجة، عدت لمقابلة «بشارة» مجدّداً في مكتبه بالطابق الثاني، وكان المير «مجيد أرسلان» و«فيليب تقلا» لا يزالان عنده، فعاد إلى مقولة الأكثرية والأقلية، متسائلاً كيف يمكنني أن أتركه في هذه الأجواء العصيبة. فذكّرته بأنّني لم أقصّر في محاولتي. ثمّ توجّهت إلى المير «مجيد» قائلاً: «في هذا الوقت العصيب والتاريخي، أستحلفك يا مير بشرفك، هل جماعتك يؤيّدون بشارة كما تؤيّده؟» قال:«لا والله، ليسوا معه». فقلت لبشارة: «هذا الرجل شريف، يؤيّدك ولكنّه يصْدقك القول».
ثمّ اجتمع بي في صالون الطابق السفلي كلّ من «إميل لحّود» و«بهيج تقي الدين» اللذين حاولا التهويل لجهة الاستقالة ونتائجها، وأنّ هذا ربمّا يؤدّي إلى تصادم بين المسلمين والمسيحيين.
وتفادياً للفتنة، وحرصاً منّي على التضامن الإسلامي-المسيحي الذي أحرص عليه وأعمل على تدعيمه دائماً، أبديت موافقتي على اقتراحهما بتقديم استقالة رسميّة، خالية من كلّ ما ذكرت في الكتاب الذي سلّمته للرئيس، وفيه الطلب إليه بالتنحّي مع عدم شرح أسباب ذلك. فوضعت كتاب استقالة جديداً بهذا المعنى ووقّعته وسلّمتهما إيّاه، خصوصاً أنّه قد تأكّد لي ما ذكر الاثنان، بما جاءاني به من أخبار قبل ساعات، من أنّ «فؤاد الخوري» شقيق «بشارة»، راح يروّجه في الأوساط المسيحيّة، وخصوصاً في المعقل الماروني في محلة الجمّيزة، من أخبار ملفّقة، ويدفع المال الوفير، محاولاً إثارة النعرات الطائفية، قائلاً للمسيحيين إنّ «صائب سلام» المسلم يريد أن ينحّي «بشارة الخوري» كي يتسلّم مكانه رئاسة البلاد.
غادرت منزل «بشارة الخوري» في عاليه وتوجّهت إلى فندقي حيث أنزل في سوق الغرب، بين العيون الحمراء والشزرات التي ودّعني بها المسلّحون المحتشدون في مدخل الدار، وغيرهم.
بعد ذلك، اتّصل «بشارة الخوري» بـ«حسين العويني» الذي جاء واجتمع به بحضور «فؤاد شهاب». غير أنّ «العويني» خشي تحمّل مسؤولية رئاسة الحكومة في ذلك الظرف، فاعتذر وانسحب. ولما وصلت الأمور إلى هذا الحدّ، بدأوا بطرح مسألة المترتّبات الدستورية على استقالة رئيس الجمهورية، وكيف أنّه عندما تنتقل صلاحياته إلى مجلس الوزراء، وهو لا يضمّ سوى وزيرين غير سياسيين، أصبح أنا عندها مسؤولاً وحيداً عن الحكم، فيما العرف في لبنان، بإقرار منّي، كان يفرض أن تكون رئاسة الجمهورية لمسيحي ماروني.
وكنت قد استدركت هذا الأمر عندما سلّمت «إميل لحود» و«بهيج تقيّ الدين» استقالة مجرّدة من أيّة أسباب. وقد تمسّك «بشارة الخوري» بهذا الكتاب نافياً وجود الكتاب الأول، رغم وجود العديد من الشهود، وكلهم شخصيات سياسية. ويؤسفني أنّ «بشارة» قد دوّن في مذكّراته «حقائق لبنانية» أنّه لم يتسلّم الكتاب الأول أصلاً، وهذا يخالف الواقع تماماً.
وفي غمرة هذه الأزمة، أصدر «بشارة الخوري» مرسوماً بتكليف «فؤاد شهاب» تشكيل الحكومة، وسلّمه الدستور أمانة بين يديه. وهذا ما جعل بعضهم يقول إنّني وضعت أول سابقة بتكليف رئيس وزارة غير سنّي، وهذا غير صحيح، لأنّني لم أقترح أحداً لرئاسة الوزارة. وأعتقد أنّ «فؤاد شهاب»، بموقفه الحيادي بين الرئيس ومعارضيه، كان في نفسه يتمنّى الوصول إلى رئاسة الجمهورية.