ذكرنا في مقالات سابقة الموانئ الواقعة الى الشرق من ميناء بيروت وهي ميناء العقارب ومرفأ الغناس وميناء عين البقر الذي نزل فيه العسكر الفرنسي سنة 1520 وانهزم شر هزيمة (أيام بيروتية، «اللواء» 16/11/2019), كما كتبنا عن المرفأ الفينيقي في ميناء الحسن (أيام بيروتية، «اللواء» 14/11/2020) وعن ميناء المدورة في الجناح (أوراق بيروتية، «اللواء» 6/2/2021) ونذكر في هذا المقال أخبار مينة الدالية.
في خزانتنا وثيقة مؤرّخة في السابع عشر من شهر صفر الخير سنة 1264هـ/1847م «باع بموجبهــا الحاج مصطفى محمد نجا والشيخ علي ناصر الطيارة الى الأمير أحمد عباس أرسلان أربعة وعشرين قيراطاً من قطعة أرض مفرزة كانت معروفة بأرض يمين الكائنة ظاهر مدينة بيروت «والمقابلة للروشة» يحدّها غرباً البحر المالح وتحتوي على بئر ماء مُعد لجمع ماء الشتاء بمبلغ ثلاثة آلاف وستماية قرش».
ويبدو أن اسم الروشة ظهر لأول مرة في مبايعة تلك السنة أي 1847م للصخرة التي كانت تعرف بمغارة الحمام La grotte aux pigeons وقد قيل خطأ بأن الفرنسيين أيام الإنتداب أطلقوا على الصخرة La roche وأن الروشة من روش الناس أي كثرتهم؟ وبرأينا أن إطلاق إسم الروشة على الصخرة تم زمن الإحتلال المصري لبيروت بين سنتي 1831 و1840م بفعل كثرة المستشارين والخبراء الفرنسيين الذين رافقوا حملة إبراهيم باشا. وتفيدنا الوثائق الموجودة منذ سنة 1843م أن عدة مبايعات تمّت في مناطق من رأس بيروت الغربي لعقارات مجاورة لشاطئ البحر، ولا سيما في محلتي جب النخل وشوران منها ثلاثة عقارات بتملّك الأمير سعيد أرسلان غربها شاطئ البحر. وقطعة قرب عين شوران ملك الغلاييني فيها أصل عريش (أي دالية) وقطعة اشتراها إسماعيل التل في أرض شوران وقطعة في كروم شوران اشتراها خليل صادق عيتاني.
ما قاله الأب زمّوفِن
نقل الأب لويس شيخو في الجغرافية ما قاله الأب زمّوفِن استناداً الى علم طبقات الأرض من أن وادي نهر بيروت مع السهل الذي يجاوره كان مغموراً بمياه البحر قبل حلول الإنسان فيه، وأن خوراً كبيراً كان يجمع بين خليج مار جرجس وبين مياه البحر عند مصب وادي شحرور، وأن رأس بيروت كان منقطعاً عن البحر وأن كثباناً من الرمل كانت تدفعها الرياح إضافة الى عوامل طبيعية أخرى شكّلت السهول التي تشكّلت بين نهر بيروت ونهر الغدير. وكان من الطبيعي أن تتكوّن بفعل تلك العوامل الجيولوجية ينابيع مياهها صالحة للشرب منها نبعة الحلبية عند موقع مدرسة الكبوشية، ونبعة شوران أو عين الفاخورة عند موقع الحمام العسكري، وعيون نابعة في محلة التحويلة وغيرها وينبوع ماء صالح للشرب في الدالية. وأن تتكوّن تلال وهضاب ومرتفعات وأودية ومغاور. وأكثر المغاور كانت موجودة من محلة ميناء الحسن (لم ترد في الوثائق القديمة إلا بصفة الحسن) وحتى الرملة البيضاء عدا مغارة الخضر أو مار جرجس شرق بيروت. وذكرت في الوثائق مغارة في محلة القنطاري ذكرها سنة 1883م قنصل فرنسا في صيدا، ومغارة سويد التي بني فوقها جامع عبد الله بيهم في (عين) دار المريسة. وذكر وجود مغارتين في أرض طنطاس التي تملّكتها الجامعة الأميركية سنة 1286هـ/ 1869م وأشير الى عدة مغاور في ساحل الروشة منها مغارة الفقمة ومغارة الوطاويط ومغارة الحمام، إضافة الى ورود كلمة «المغـر» (جمع مغارة) في أراضي وطا بطينا (الطينة).
مغارة الحمام من بقايا جزيرة
تساءل الدكتور سعيد شهاب الدين في رسالته المقدمة في جامعة السوربون سنة 1950م عما إذا كانت مغارة الحمام من بقايا جزيرة وان ما اكتشف من أدوات في منطقة المغارة يثبت ان الإنسان كان يشغل (يسكن) في رأس بيروت منذ القدم أي في العصر الحجري الوسيط Poleolithique moyen. وذكرت نينا جدجيان بأن الأب راوول ديريب حقق سنة 1924م اكتشافات هامة الى الجنوب من مغارة الحمام في موقع يسمّى مينة الدالية يرتفع الى علو خمسة وأربعين متراً فوق سطح البحر ما يشكّل شاطئاً صخرياً يمر الكورنيش (الحالي) بجانبه. وقد وجد في تلك البقعة أجزاء من أدوات - القليل منها سليم - تغطي الأرض وتعود الى 4000 - 3000 سنة قبل الميلاد وكان من ضمن هذه الأدوات خناجر من الصّوان، وهو المعروف بخنجر مينة الدالية وميزته أن شكله مثلث مستطيل، مشغول من جهتيه يشبه المكشط المعدني الحالي (المجرفة) وان من المرجح ان النماذج التي وجدت في شاطئ بيبلوس وفي رأس شمرا قد جرى استيرادها من مينة الدالية. فهذا الموقع كان يحوي أقدم مشغل (محترف) في الشاطئ اللبناني لإعداد وصنع هذه الأدوات وقد تم هجره بعد ذلك عندما حلّ المعدن محل الحجر. يذكر ان العديد من القطع المكتشفة في مينة الدالية محفوظة في متحف التاريخ العائد لجامعة القديس يوسف. وقد تعرّضت الأرض الصخرية في تلك البقعة للتلف عندما احتلتها فرقة مدفعية انكليزية.
منتجات من حجر الصوان في مينة الدالية
لم تتم دراسة مكثقة لطبيعة الأرض في تلك المحلة ولا الاستعمالات المحتملة لتلك المكتشفات الصوانية، إلا ان مجرد الإشارة الى وجود منتجات محترف مينة الدالية في بلاد بعيدة كجبيل أو رأس شمرا – لم يعرف ما إذا وجدت أشباهها في بلاد أخرى – تجيز للمرء أن يستنتج أن عشرات من العمال والحرفيين ان لم يكن المئات، كانوا يعملون لاستخراج الأحجار الصّوانية وصقلها وتلميعها وسنّها وإعطائها الأشكال المطلوبة وحدّ رؤوسها لجعلها جارحة.
وقد تكشف دراسات وأبحاث مستقبلية معمّقة من اختصاصيين جيولوجيين ومؤرّخين أن هذا العدد الكبير من الصناّع كان يحصل على المياه الصالحة للشرب من العيون النابعة بين الصخور، ويحصل على الطعام مما كان يزرع في الأراضي القريبة من موقع العمل. وكان العمال والحرفيون يأنسون الى الحمام الذي اتخذ أعشاشاً له فوق الصخرة وقد وجدوا فيه عامل بريد يحمل إليهم طلبيات زبائنهم من الخناجر ثم يبلغون الزبائن بواسطته عن انجاز الطلبية التي يسلّمونها في الميناء عند أسفل الصخرة لتنقلها المراكب الى أصقاع العالم القديم.
فإذا انتهى نهار العمل من محترف مينة الدالية واجتمع الحرفيون ليلاً للسهر لاعتقادهم بأن القمر خلق للسمر، وجدوا في عناقيد دالية معمّرة دانية القطوف فاكهة لأجسادهم، يأكلون منها عنباً ويشربون من عصيرها سلافة، يستظلون بها نهاراً ويتسامرون تحتها ليلاً ترويحاً لأنفسهم من عناء العمل.
وإذا كانت الخناجر اختفت والدالية يبست، فقد بقي البيروتي يقصد مينة الدالية فيمتّع نظره ويروّح عن نفسه وعائلته بزرقة البحر وشمس الأصيل وحمام الصخرة. إلا أن من مساوئ الصدف أن يظهر من تملّك الأراضي في مينة الدالية والروشة وشوران وأن يتم أيام الانتداب الفرنسي سنة 1926م مسح تلك الأراضي وتحديدها وتحريرها. إلا ان ذلك لم يمنع الأهالي من التنزّه في تلك الأراضي وتمضية نهار العطلة فيها للتمتع بالسماء والماء والهواء. ثم يمرُّ الزمن وترتفع أسعار تلك الأراضي وتتغلب الرغبة ممن يحبون المال حبا جمّا ويأكلون التراث أكلا لمّا باستثمار تلك المنطقة أســـوة بما جرى في نقاط أخرى من الشاطئ، دون أن يعمد من بيده الأمر من متنوّري السلطة - وهم قلّة - الى البحث عن حلّ يجمع بين الصحيحين: حق المالكين باستثمار أملاكهم أي الحق الخاص، وحق التاريخ والتراث والبيئة أي الحق العام.
وكانت قد جرت منذ أكثر من أربعين عاماً محاولة من الصديق إبراهيم قليلات لإقامة حديقة في مينة الدالية عرفت «بالحديقة اليابانية» ولكن المشروع تعثّر ووصل الى المحاكم وكنت وكيلاً فيها عن قليلات.
مغارة الوطاويط عند الروشة
ومن طرائف شاطئ الروشة ومغاورها حادثة مغارة الوطاويط، فقد حدث أثناء احتلال إبراهيم باشا بيروت أن تاجراً اشترى قنطاراً من الزبيب وتركه مفروشاً في ركن من أركان دكانه. وكانت نافذة صغيرة تعلو الباب. أقفل التاجر دكانه وذهب الى دمشق في بعض أموره. ولما عاد تفقّد الزبيب فلم يجد منه زبيبة. وشكا الى متسلم المدينة الذي لم يتمكن من معرفة السارق لعدم وجود كسر أو خلع في الباب أو في النافذة. وبعد أيام خرج بعض أتباع الباشا للنزهة - في مغارة الحمام (صخرة الروشة) في رأس بيروت ولفت نظرهم وجود فتات الزبيب قرب المغارة فأخبروا الباشا بذلك وتذكّر الزبيب المسروق فأرسل الى التاجر وقال له: لقد وجدنا السارق فاذهب غداً مع ضابط البلد للقبض عليه. وسرّ التاجر وركب مع الضابط وانطلقا بين البساتين حتى انتهيا الى المغارة فصاح: يا سارق الزبيب سلّم نفسك. ثم أعاد المناداة: يا سارق الزبيب إظهر وبان لنتفق على ما أكلت من أثمان... دون طائل والتفت الى الضابط وسأله: أين السارق؟ فقال: ما أحسبه من الإنس أو من الجن، وأضاف مبتسما: سارق الزبيب جماعة الوطاويط. ومن المعروف أن ثمة مغارة كانت تعرف بمغارة الوطاويط كان موقعها قرب مقهى الغلاييني الذي أصبح فيما بعد مطعم ومقهى الـ «ميري لاند» ثم أصبح أخيراً منتجع الـ «موفينبك».
* مؤرخ