ليلة الرابع والعشرين من شهر
شباط 2022 لم تكن ليلة عادية بالنسبة للأوروبيين ففي تلك الليلة ظهر الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين وهو يضع يده على الطاولة وبكل حزم ليُعْلِنْ إنطلاقة الحرب الروسية
الأوكرانية لإقتلاع النازية منها كما قال وبشكل أدق لمنع تمدُّد حلف الناتو أكثر
نحو بلاده.
إنقلبتْ أوروبا رأسًا على
عقب،فتلك الحرب لم تحدث منذ مئة عام تقريبًا ، طائرات ومدافع تضرب في شرق القارة
لتعلن بذلك إنطلاق حربٍ جديدة في أوروبا، حربٌ هي في الواقع بين معسكر الشرق
بقيادة موسكو ومعسكر الغرب بقيادة واشنطن أميركا أرسلتْ التطمينات سنجد لكم البديل
المناسب عن روسيا في مجال الطاقة وسندعم أوكرانيا لتقاتل بوتين حتى آخر رمق وسنمنع
روسيا من ضرب أية رصاصةٍ نحوكم وفي ذات الوقت سيبقى إقتصادكم في القمّة ، فهل حدث
ذلك ؟
في الواقع لم يحدث أوكرانيا
تقاتل وحيدةً وبوتين يهدد كل دول شرق أوروبا ، الدولار الأميركي يحلّق بعيدًا
والأورو ينهار إلى الأسفل ، هي وقائع لا
تحتاج لأرقام أو دلائل ، بل يشاهدها العالم كله اليوم وفي كل لحظةٍ أنها وقعةُ
أوروبا السوداء ، فكيف بدأ مسلسل الإنهيار الطويل ؟ ومن قاد أوروبا لحافة الهاوية
بعد سنين من المجد ؟ موسكو أم واشنطن أم الشتات الداخلي !!
سببًا من بين أسباب ، الحرب
الروسية الأوكرانية لم تكُن هي المسببُ الرئيسي للسقوط المدوّي للقارة للسّاسة
حُججٌ كثيرة والواقع يقول الكثير لكن يمكن القول أنّ تلك الحرب هي الواقعة التي
كشفت الكثير من الخلل ،فمنذ إنطلاق الحرب تسابقت دول أوروبا على دعم أوكرانيا عسكريًا وإنسانيًا فكانت في المقدمة
الولايات المتحدة التي تُشير الأرقام أنها قدمتْ أكثر من ثلاثة عشر فاصلة ستة
مليار دولار كمساعدة ل كييف ، منها ثلاثة فاصلة ستة مليار دولار على شكل
مساعدات عسكرية ، لكنها في ذات الوقت كسبتْ المليارات ذلك لأنّ أغلب الأسلحة التي
قٌدِّمَتْ لأوكرانيا تمّ شراؤها منها فبعد شهرين على بدء الحرب كانتْ دول الإتحاد
الأوروبي قد دفعت خمس مئة وخمسين مليون دولار كمساعدات عسكرية لأوكرانيا ، رقم
وجدته أوكرانيا قليلٌ للغاية مقابل دفاعها عن أوروبا لدى روسيا لِتُمارس معها
واشنطن ضغطًا على دول الإتحاد رُفِعَ من خلاله الدعم العسكري الى واحد فاصلة واحد
مليار دولار ،كما خصصت مئة وخمسون مئة مليون دولار كمساعدات إنسانية ... كلها
دُفِعَتْ من الخزائن الأوروبية دون عودة
يُضاف إليها تورط بعض الدول بالدعم بشكل مباشر ما جعلها في مواجهة مباشرة مع روسيا
ومنها بولندا التي تحولت إلى ممر وحيد لعبور الأسلحة ل كييف ما وضعها في شبه حالة
حرب مع موسكو لكن من دون قتال ... مع عدد من الدول المحيطة بأوكرانيا وحتى روسيا
لكن ذلك ليس كل شيء فإنهيار أوروبا جاء على دفعات وعلى رأسه الإنهيار الإقتصادي.
مع إنطلاق الحرب الروسية
الأوكرانية وجدت الدول الأوروبية نفسها في
مأزق ألا وهو الطاقة التي تعتمد فيها على روسيا بشكل أساسي ومع فرض كل دول الإتحاد
الأوروبي ومعهم الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على موسكو كانت مشكلة طريقة
إستيراد الوقود العفوري تقلق الأوروبيين لكن موسكو سريعًا واجهتهم بحزم بفرضها دفع
ثمن الوقود بالروبل الروسي ما إنعكس على إقتصادها الذي يمكن القول أنه لن يتأثر
بتلك العقوبات وباتت التأثير يضرب الدول الأوروبية التي باتت مجبرة على تبديل
اليورو بالروبل الروسي للدفع لموسكو .
بعد ذلك بدأت مسيرة إنهيار
اليورو ففي أوساط تموز 2022 ،كان العالم يشاهد لحظة تاريخية لم يشهدها منذ عشرين
عاما هو ذلك تساوي اليورو بالدولار الأميركي حتى أنه نزل لدون مستوى الدولار .
مكتب يوروستات للإحصاءات التابع للمفوضية الأوروبية أوضح في تقرير ضمّ الكثير من
الأرقام وضّحت قصة إنهيار اليورو السريعة حيث أكد أنْ الحرب الروسية الأوكرانية
لعبت دورًا رئيسًا في هذا الإنهيار خصوصًا مع الإرتفاع الحاد في أسعار الطاقة
والمحروقات بالإضافة إلى الإنكماش الإقتصادي وإرتفاع نسبة التضخم الإقتصادي في
منطقة اليورو لأكثر من خمسة بالمئة وهي أعلى نسبة تسجلها القارة الأوروبية منذ
ثلاثين عاما إستنادًا للمكتب نفسه في ذات الوقت كانت الولايات المتحدة الأميركية
لاعبًا رئيسيًا في ذلك الإنهيار بل وحتى أنها المستفيد الأكبر منه . وفي الوقت
الذي كان فيه اليورو ينهار ويضعف كان الدولار الأميركي يزداد قوة ويزداد الطلب
عليه في الأسواق العالمية ما جعله يصعد في الوقت الذي كان ينهار فيه اليورو إذ أنّ
أغلب أسواق الطاقة العالمية بخلاف السوق الروسية مسعرة بالدولار ومع إرتفاع أسعار
الطاقة كان الدولار يرتفع هو الآخر معها .
الدول الأوروبية اليوم
تُصِّرْ على أنّ الإقتصاد الأوروبي هو بخير لكن التوقعات لا تبشر بالخير أبدا ،
فاليورو
العملة الرسمية لتسعة عشرة
دولة من الإتحاد الأوروبي بالإضافة إلى كرواتيا ستكون الرقم عشرين ما يعني أنها
عملة يستخدمها أكثر من ثلامئة وأربعين مليون شخص يوميًا وإنهيارها المستمر سينعكس
سريعا على ثلاث مئة وأربعين مليون مواطن وسيؤدي إلى إرتفاع في الأسعار ومزيد من
التضخم والمشاكل الإقتصادية في عشرين دولة أوروبية ويتوقع الخبراء مزيدا من الهبوط
لليورو في الأشهر المقبلة خصوصا عند إقتراب فصل الشتاء حيث ستحتاج أوروبا المزيد
من إمدادات الغاز لذلك يبقى مصير اليورو مجهولا ومظلما ويحتاج تدخلا قريبا من
البنك المركزي الأوروبي أو الفدرالي الأميركي لدعمه فالدولار ومنذ سنوات تعود قوته
لقوة البنك الفدرالي الأميركي على عكس البنك المركزي الأوروبي الذي لم يتدخل أخيرا
في اليورو ما ينعكس سريعا على سعره وقوته في الأسواق ولكن هل مشكلة أوروبا هي
اليورو فقط ؟
بالطبع لا فاليورو مع مشكلة
بين مجموعة مشكلات كثيرة تعانيها القارة كلها فبعد مرور أشهر من الحرب الأوكرانية
طغت حالة من التصدع الكبير بين مواقف الدول الأوروبية فالبرغم من كون كل دول
الإتحاد الأوروبي قامت بالإستجابة للعقوبات التي فرضت على روسيا بشكل مباشر لكن كل
واحدة منها كانت تراوغ على طريقتها ،فعندما طلبت روسيا دفع ثمن الوقود العفوري
بالروبل رفضت بعض الدول وقطع عنها النفط مثل بلغاريا وغيرها وفي ذات الوقت وافقت
دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا لتستجيب لمطلب روسيا الذي شكل طوق نجاة لإقتصادها ما
جعل الموقف الأوروبي بالكامل يعيش حالة من التصدع والتوتر ... ومع إستمرار الحرب
يوما بعد يوم كانت الدول الأوروبية أكثر تخوفًا من الدفع أو مساعدة أوركرانيا
عسكريًا أو ماديّا حيث إنّ الحرب تحولت إلى حرب مفتوحة لا يعلم أحدٌ متى تنتهي وفي
ذات الوقت لم تتراجع روسيا من أي منطقة قد سيطرت عليها ما جعل موقف أوروبا ومعها
أوكرانيا صعبا ويقود لمصير وسيناريو مجهول لا يعلمه أحد . ففي بداية الحرب إتجهت
كل الدول لإرسال السلاح والمال ل كييف حتى أن بعض الدول أرسلت أسلحة خاصة لم يسبق
أن ورّتها لأحد مثل الصورايخ الألمانية المضادة للدروع التي أرسلت لأوكرانيا
وغيرها الكثير من الأسلحة الفرنسية والبريطانية إلاّ أن ذلك الخط المتدفق من
السلاح والمال لا بد أن يتوقف بنظر الأوروبيين ... فقبل أيام قليلة كانت واشنطن
قلقة على سلاج الجو الأوكراني إذ طالبت الدول الأوروبية ممن تملك طائرات من طراز
ميغ 29 السوفياتية إرسالها إلى أوكراني حصولها مقابل على أف 16 الأميركية .... عرض مغر وصل للأوروبيين
على رغم من أن هذه الدول هي من إقترحت في البداية إرسال السلاح السوفياتي القديم
لأوكرانيا لكنها وعلى ما يبدو تراجعت خوفا من الخسارة لوحدها . لذلك كان لا بد من
عرض أميركي يدفع من خلاله مقابل تلك الطائرات ... فواشنطن في الوقت ذاته تخشى
إرسال أسلحتها الحديثة إلى أوكرانيا وذلك خوفا من وقوعها في أيدي الروس وحصولهم
على التقنية الأساسية للأسلحة الأميركية مقابل صنع أسلحة أقوى منها وخصوصا في مجال
سلاح الجو الذي يعتبر واحدا من أكثر المجالات منافسة بين روسيا وواشنطن.
خسائر وضغوطات ومصير مجهول
دفع بعض الدول الأوروبية عن التراجع عن الدعم العملي لأوكرانيا ، ففي أحدث
التصريحات الدعم خرجت وزيرة الدفاع الألمانية لتؤكد أنّ بلادها أبلغت أوكرانيا
بمحدودية قدرتها العسكرية على تقديم مزيد من السلاح وهو على ما يبدو التصريح الذي
سيتوالى من بقية الدول الأوروبية التي تجد نفسها ليوم قد غرقت رسميا في الحرب
الروسية الأوكرانية حتى أن بعضها باتت تحاول الدخول كوسيط فيها على الرغم من أنها
تقول بأن روسيا ظالمة وأوكرانيا يقع عليها الظلم ... وفي خلال جلسة للبرلمان
الأوروبي خرج الرئيس الفرنسي أغضب العديد من الدول حيث قال إنّ السلام في أوروبا
لا يمكن أن يُبنى من خلال إذلال روسيا وقال بشكل حرفي لسنا في حالة حرب مع روسيا
مؤكدا أن واجب أوروبا هو الوقوف مع أوكرانيا لوقف إطلاق النار وبناء السلام مع
روسيا
تصريحات ماكرون جاءت بعد
محاولات منه لتكون بلاده وسيطا بين موسكو و كييف وعلى الرغم من فشل المحاولة إلاّ
أن باريس وحتى اليوم تحاول لعب ذلك الدور من جانبها ألمانيا ترفض سلام مشروط على
أوكرانيا وذلك في معرض ردها على ماكرون بالرغم من أنّ المستشار الألماني التأكيد
على أنّ الحل هو الدبلوماسي ، إيطاليا هي العضوة في الإتحاد الأوروبي والتي تفرض
عقوبات على موسكو تحاول فرض نفسها كوسيط سلام بين الطرفين إذ قال رئيس وزرائها ماريو دراغي أن علينا فعل
كل شيء من أجل السلام .كما قدم فيما شايو خطة مارشال الرئيس الأميركي وذلك لإعادة
بناء أوكرانيا ...
تصريحات متوالية لأكبر ثلاث
دول في الإتحاد الأوروبي وهم فرنسا ايطاليا ألمانيا تؤكد توافقهم على فكرة التفاهم
السياسي مع موسكو على الرغم من إختلافهم على الطريقة والشروط ... لكن تلك الآمال
تصطدم برغبة أوكرانيا نفسها ، فبعد كل تلك التصريحات قال الرئيس الأوكراني بأن
بلاده ستستمر بالقتال حتى خروج الجيش الروسي وان أوكرانيا لن تحفظ ماء وجه بوتين
بالتنازل عن أراضيها وهو التصريح الذي وصف بالرفض لكل أنواع المفاوضات والتفاهمات
. دعوات القادة الأوروبيين لا تتعارض مع كييف فقط بل مع واشنطن التي ترى أوكرانيا
قادرة على هزيمة روسيا وإن إستمرار تقديم الدعم لها هو الحل الأمثل للجميع.
لكن ذلك لا يظهر تماما في
رؤية القادة الأوروبيين وهي النقطة التي تظهر حجم الشتات والإختلاف في وجهات النظر
فيما بينهم ففي وسط الأزمات العسكرية والإقتصادية وحتى الإجتماعية يظهر أنّ القادة الأوروبيين قد إتفقوا على ألا
يتفقوا على أزمة أوكرانيا وإذا إتفقوا على موضوع إختلفوا على التفاصيل وهو ما يسبب
عجز القارة أكثر فأكثر ... فالإتحاد الأوروبي الذي يجمع النسبة الأكبرَ من دول
القارة العجوز يعيش منذ سنوات حالة من التخبط وذلك على خلفية إنسحاب بريطانيا بعد
مسلسل دراماتيكي وإجراءات معقدة واليوم تعود قصص الإنسحاب من جديد وهذه المرة في
ظل أزمة عنيفة تعيشها القارة بالكامل وهي الخلاف مع روسيا ففي فرنسا خسر ماكرون
الأغلبية البرلمانية للمرة الأولى وبات تحت سيف أي قرار قد لا يشتهيه ومنها قرار
الإنسحاب من الاتحاد الأوروبي . قصة باريس الانسحاب من الإتحاد تعود الى العام
2021 وذلك عندما خرجت أصوات فرنسية تطالب الخروج من الإتحاد كما فعلت بريطانيا من
قبل واطلق بوقتها ما سمي بمشروع "فركسلن" فمنذ ذلك الوقت تشير الإحصاءات
إلى النسبة العظمى من سكان شمال وشرق فرنسا يؤيدون بقوة الإنسحاب من الإتحاد
الأوروبي كما يدعم اليمين المتطرف ذلك الإنسحاب بقوة مع ذلك كانت التقارير تعود
الى قبل الإنتخابات على حساب اليمين المتطرف لكن اليوم إختلف الوضع تماما البرلمان
ليس مع ماكرون واليمين المتطرف والوسط في ذات الوقت يدعمون فكرة الإنسحاب خصوصا
بعد الأعباء التي وقعت على فرنسا عقب الحرب الروسية الأوكرانية فبعد خروج بريطانيا
من الاتحاد الأوروبي يمكن القول أن باريس باتت الراعي للإتحاج ما زاد بشكل عام
الخسائر لإبقاء على الإتحاد حي في ظل أزمات مستمرة منذ جائحة كورونا بالإضافة
للتضخم العالمي والمشاكل الدورية وسيناريو خروج فرنسا اليوم قد يتحول الى واقع فمع
مرور الأيام تزداد الأعباء على العديد من الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا
والمانيا الباحثة وتأسيس جيشها من جديد وهو التأسيس التي يفتح نقطة جديدة في
الشتات والإنهيار الأوروبي فالمانيا التي خسرت الحرب العالمية الثانية عاشت فيما
يقارب المئة عام بجيش محدود لا يسمح له بإستخدام العديد من السلحة المهمة بالإضافة
إلى عدم السماح لرفع عديده لكن يبدو أن برلين تريد أن تتناسى تلك القرارات وتطلق
جيشها للعالم بتخصيصها مليارات الدولارات وإعادة تكوينه من الصفر وهو القرار الذي
تتخوف منه الدول الأوروبية الصديقة لبرلين الذي ترى في عودة الجيش الالماني عودة
للنازية التي دمرت القارة في القرن الماضي على الرغم من الوعود من برلين بمنع دخول
المتطرفين إلى الجيش لكن ذلك يبقى ليس إلا تطمينا لا يؤخذ على محمل الجد بالنسبة
للأوروبيين .
خروج فرنسا من الإتحاد
الأوروبي وإعادة بناء الجيش الالماني ثم إنهيار اليورو هو إختلاف الآراء هو الحل
الأمثل لحل الأزمة الأوكرانية الروسية وحتى التشتت الكبير في أوروبا ينذر بإنهيار
القارة ويوضح يوما بعد يوم أن تلك القارة بحاجة إلى تلك الشعرة التي ستقصم ظهر
البعير وتعلن إعادة ترسيم حدودها وحتى
إندلاع حروب أوروبية جديدة .
سفير الجمعية العالمية لحقوق الإنسان، الموّدة