بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 أيار 2021 12:17ص إستنهاض بيروت

حجم الخط
يومًا بعد يوم، تزداد أعداد الناس في بيروت التي تسأل عن المعونات والمساعدات، فلقد أصبح أهلها أكثر فقرًا بعدما كانوا تجارًا أصحاب عقارات، رغم أن هناك عددا لا بأس به من الأغنياء الذين يملكون المال، ولكن مدينة بحجم بيروت من الناحية الديمغرافية والمساحة لا تكفي لهؤلاء إن أرادوا المساعدة على المستوى الفردي أن يحدثوا تغييرًا حقيقيا، فهذه المدينة هي العاصمة السياسية للبنان، فهي لا تعاني من الفقر والعوز فقط، ولكن معاناتها أكبر وأعمق من ذلك بكثير، لقد بات واضحًا وجليًا أنه هناك خطة ممنهجة لإبقاء تلك المدينة تحت وطأة الاحتلال الفكري وتفريغها من الطاقات الشبابية والفكرية، فإن التغيير الحقيقي يبدأ في العاصمة التي عادةً تكون لها كلمة الفصل في حركات الشعوب والثورات والإنتفاضات، حتى لو اجتاح التغيير كل القرى والمدن الكبرى ولكن لا يكتمل نجاح تلك الموجة ما دامت العاصمة لم تتحرك، وهذا ما يراهن عليه من يتولى قيادة العاصمة السياسية، فلقد تم تغييبها من المشهد السياسي، ليس بالأشخاص لأنه يوجد بعض الشخصيات من المدينة مشاركين في السلطة والعملية السياسية، ولكن لا يتمتعون بالشخصية الحقيقية والقيادية والرؤية الناضجة، إنما أظهروا صورة نمطية هزلية لا ترتقي إلى المستوى المطلوب الذي كانت بيروت تنتجه في السابق من شخصياتٍ قيادية وعقيدة سياسية واضحة، هذا النموذج أصبح غير موجود.
من يقرأ تاريخ بيروت العريق يدرك مدى الكارثة التي تعيشها، فلقد كانت سابقًا مدينةٌ يعشقها العرب والعجم، الموالي والمعارض، الغربي والشرقي، كل من زارها شاهد سحر جمالها وفُتن بها، فلقد كانت مرتعًا للشعراء والمعارضين والمثقفين والثوريين، لقد احتضنت المقاومة الفلسطينية وصمدت في وجه الإحتلال الإسرائيلي، وكانت عاصمة النضال، هذه المدينة كانت منارةً للعلم حيث استقبلت طلاب العلم من كل أصقاع الأرض في أصرحتها الجامعية، ولكن المشهد اليوم يختلف عما كان سابًقا، ليس فقط في بيروت إنما لبنان عمومًا، بسبب النكسات والصدمات التي تعرضت لها البلاد منذ عشرات السنين، وظهرت نتائج الإخفاقات عند بداية ثورة 17 تشرين، ولكن بيروت بشكل أخص كانت مستهدفة بشكلٍ خاص لمدى أهميتها في عملية التغيير، وهنا جوهر الموضوع. لست هنا بصدد تشخيص الحالة المرضية والتفسخ الحاصل، ولكن لا بد لنا أن نبدأ بوضع رؤية بسيطة لإسنتهاض المدينة، فلقد أصبحت ثقافة الكرتونة ثقافة سائدة بين أهلها، وهذا ليس من باب المساعدات إنما من أجل ترويض أهلها وشبابها من أجل مكاسبٍ سياسيةٍ ضيقة وتحويل الطاقات الموجودة من طاقاتٍ منتجة إلى طاقاتٍ خمولة تنتظر الإعاشة شهريًا وتصبح مرتهنة سياسًا، فبتلك الطريقة يصبح الشباب هشّين فكريًا وجسديًا وبنيويًا، حتى شخصيتهم تصبح مهزوزة غير قادرة على أخذ زمام المبادرة والسيطرة إنما مسيطر عليها، إضافةٍ إلى تلك الثقافة، تعاني المدينة من غياب كلي للأحزاب السياسية بالمعنى الحقيقي وليس الموجود والأكاديميات السياسية والتثقيفية والحدائق الاجتماعية التي هدفها إنتاج تلاحم بين المجتمع ومحاربة التفسخ الحاصل، بعد أن اجتاحتها الرأسمالية الجشعة وفرغتها من الروح من خلال الأبينة العشوائية والمباني المتلاصقة لبعضها البعض من أجل الربح البسيط حيث خسرت المدينة الكثير من ميزاتها.
من هنا، لا بد من وضع استراتيجية تهدف إلى نهضة المدينة من جديد، ولا بد من استنهاض جيلٍ قادر على أن يتولى القيادة من جديد ومحاربة النظرة السائدة تجاه أهلها والشخصية البيروتية النمطية التي لا تعكس واقع الحال. أولًا لا بد من العمل على إنشاء أكاديمياتٍ سياسية هدفها تثقيف الشباب وزرع الأمل بعدما اجتاح اليأس المجتمع، وزرع الوعي وبناء حقلٍ معرفي واسع النطاق يطال كل الأمور السياسية والاقتصادية والفلسفة، وهذه الأصرحة هدفها خلق روحٍ جديدة، فمن خلال زرع الفكر يستطيع الإنسان الخروج من النمط الفكري السائد ويستطيع أن يتمتع بالقدرة على التحليل والتفكير ويصبح منتجا، هذه الأكاديميات منتشرة في كل أوروبا التي كان لها الباع في نشر الوعي بين الشعوب حتى وصلت أوروبا إلى وصلت إليه اليوم.
هذا من الناحية الفكرية، أما من الناحية الجسدية، لا بد من إنشاء جيلٍ شاب يتمتع بالصحة والقوة البدنية وهذا أساسي في عملية كسر النمطية السائدة، يجب علينا العمل على وضع بطاقة تشجع شباب العاصمة على الدخول للأندية الرياضية كي يتمعتوا باللياقة البدنية والجسدية، هذا المشروع يجب أن يكون أساسيا، فإذا كانت اجساد الشباب في بداية عمرهم ضعيفة فماذا سوف تكون عندهم يكبرون؟ فهذا يعزز من نشاطهم والاستعداد لمواجهة الصعاب في المستقبل.
أما الأمر الثالث، بعد أن بنينا الفكر والجسد القوي، أصبحت لدينا شخصية قادرة على تلعب دورًا محوريًا في عملية استنهاض المدينة، علينا أن نحثهم على الدخول في المعترك السياسي أو الشأن العام بالطريقة الصحيحة عبر الأحزاب السياسية، إن الفكرة السائدة اليوم، أنه من يريد أن يدخل اللعبة السياسية عليه أن يبدأ بتوزيع الحصص، وهنا تكمن الخطورة، فتلك الصناديق هي شراء الناس بطريقة مباشرة واستغلال وجعهم وفقرهم، وهذا ما أدى إلى سقوط المدينة في حفر الظلام والجهل والتفريغ الفكري، لا بد لنا أن ننتج أحزابا سياسية تستقبل وتستوعب تلك الطاقات البشرية والفكرية، هذه بداية التغيير والثورة الحقيقية.