بعد أيام قليلة، تُطفىء إنتفاضة 17 تشرين الأول شمعتها الأولى، لتؤسس على ما بَنته في أشهرها الطويلة الماضية وخاصة في مراحلها المثالية الأولى، وهو بناء رمزي في الدرجة الأولى لكنه يمثّل خطوة أولى على درب زمنيّ طويل سيكون مليئا بالأشواك.
هذا الطريق يشكل درب الجُلجلة الذي على أية انتفاضة أو هبّة شعبية أن تسلكه لكي تتحول الى ثورة حقيقية تُجري التغيير الدراماتيكي في السلطة التي ثارت لاقتلاعها. والثورة ليست في حراكها المادي التغييري على الأرض، وهي قد تكون كذلك، لكنها بمعناها الحقيقي تتمظهر في مدى الانقلاب الذي تجريه في ظروف البلاد وعلى صعيد الحكم المُثار عليه.
والتغيير الجذري المنشود هو الذي يُشار إليه عند تقييم نجاح إنتفاضة أو ثورة ما. سواء على صعيد نظام الحكم أو في التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والانسانية التي يحققها الحراك الشعبي. كما أن التغيير المنشود قد يكون دراماتيكياً وفُجائياً، مثلما قد يتحقق على مراحل زمنية وبفعل تاريخي تراكمي يتواءم فيه الفعل الشعبي وذلك السياسي. أي بكلمات أخرى، فإن الثورة تُقيّم في خواتيمها ومآلاتها.
وانتفاضة تشرين، في غالبها الأعم، إستبعدت الانقلاب بالقوة العسكرية والعنفية على النظام، وإن شابتها أعمال عنف عفويّة وأخرى مخطط لها، لكن زادها في الحالتين تمثل في الفقر الذي حل باللبنانيين، وليس الحكم الحالي وحده المسؤول عنه، بل هو جاء نتيجة مرحلة زمنية طويلة بلغت عقوداً كان سببه الأهم فساد المنظومة الحاكمة التي تولت أمور لبنان خاصة في مرحلة ما بعد إتفاق الطائف.
وكما كان الفساد تراكمياً، جاءت الإنتفاضة الشعبية على مراحل زمنية وهي بدأت قبل نيف وسنوات خمس عندما ثارت مجموعات شعبية على حكومة ذلك الوقت، بسبب فضيحة النفايات، في سابقة شعبية أنتجتها مجموعات من المجتمع المدني تمخضت عنها تلك المجموعات والتيارات التي أسست لإنتفاضة 17 تشرين. وتبعتها نضالات في الشارع إتخذت سمة مطلبية ومعيشية يساريّة الطابع الأعم وهو ما شكل خزان التفجر الشعبي قبل عام.
إنجازات.. وعثرات
وبرغم الهبَّة الشعبية متنوعة الطوائف والطبقات والمناطق، فإن ظروفا موضوعية وطبيعية وأخرى ذاتية أدت بالانتفاضة الى ضمور. فقد اصطدم الحراك، قليل الخبرة والتمرس السياسي والمنقسم على نفسه، بتنظيم أحزاب السلطة التي كانت ضربت عميقا في الدولة عبر تأمين مصالح جمهورها، مثلما لا تزال تحظى بدعم تمويلي متعدد الأوجه. كما أن مجموعات شعبية واسعة قد انفضت عن الحراك بعد مرحلة اندفاع، نتيجة اليأس المبكر من التغيير، كما بسبب تحول الاعتراض السلمي على السلطة الى أعمال شغب وقطع للطرقات، تتهم مجموعات الحراك السلطة به.
ولعل هبوب وباء «كورونا» قد وجه ضربة قاصمة للحراك كان أهم دلائلها عدم قدرته على النهوض حتى بعد كارثة إنسانية تسببت بها السلطات المتعاقبة مثل مأساة المرفأ.
لكن الحق يقال أن الانتفاضة حققت مكاسب هامة لعلّ أبرزها قدرتها على ضرب الهيبة التاريخية للسلطة، وفعل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في ذلك، كما تمكن الحراك من التأسيس لعصر جديد غير ما بعده على صعيد تسليط الاضواء على أداء السلطة وتزخيم حالة الاعتراض عليها وإبعاد الشخصيات المشبوهة عن حكم اللبنانيين وإنجازات أخرى..
لم يكن هناك وهم في التمكن من قلب السلطة رأسا على عقب، برغم الاصوات التي صدرت ولا تزال عن ذوي الرؤوس الحامية والحالمة بتغيير إنقلابي دراماتيكي شبه مستحيل للسلطة.
ومن الملاحظ أن القيِّمين على الإنتفاضة باتوا أكثر واقعية في مقاربتهم لهذا التغيير المنشود. وهم يعلمون تماما أن الانخراط في اللعبة السياسية يعد جانبا أساسيا منه. بدءا من القبول بحكومة نظيفة ومرورا بخوض الانتخابات النيابية، وطبعا بالاستمرار بالنضال الشعبي المطلبي وليس بالضرورة عبر تجمعات ضخمة كالتي حدثت في المراحل الاولى للانتفاضة.
والحال أن تجمعات شعبية من عشرات الناشطين تستهدف أماكن الفساد ورموزه، في مناطق متعددة وليس فقط في العاصمة بيروت، سيكون وقعها أكبر على السلطة من تجمعات بشرية واسعة من غير المستطاع السيطرة عليها.
كما سيكون من المفيد لمجموعات وشخصيات الحراك التركيز على الجانب المطلبي والاستمرار في إحتقار الفساد ورموزه، وتحييد القضايا الكبرى المختلف الى حد الانقسام عليها.
أي بكلمات أخرى، سيكون لزاماً في هذه المرحلة الزمنية تولية الشأن المعيشي على السياسي والاستراتيجي. ذلك أن الانتفاضة اليوم تلائم عصر الإعلاء من شأن الحقوق الفردية والجانب الإنساني للشعوب في العالم، بعد تجاوز عصر الإيديولوجيات التي شددت طيلة عقود على الجانب الجماعي لتلك الشعوب.
التنظيم والإنجاز التراكمي
وبات لزاماً على الانتفاضة عدم ارتكاب غلطة السلطة في تخوين معارضيها، والتعاون مع الأحزاب والتيارات السياسية التي تشترك معها في الاهداف نفسها مع مقاومة اي ارتهان لها.
لكن مشكلة تنظيم الذات بقيت من دون حل حتى اللحظة. فقد شاب الانتفاضة عثرة تمثلت في عدم تجمعها على هدف واحد. واذا كان من الطبيعي أن لا تتمكن من توحيد نفسها في إطار واحد نتيجة المروحة الواسعة للشرائح الشعبية التي نزلت الى الشارع، الا انه من المفيد، مع نضج الانتفاضة والتركيز على الجانب السياسي التدرجي في انتزاع المطالب، أن تعمل منذ الآن على تنظيم النفس على طريق خوض الاستحقاق الانتخابي المقبل، حتى لو لجأت السلطة الى إرجائه، متخذة من انتخابات النقابات والجامعات أمثلة على إمكانية خرق لوائح السلطة خطوة وراء خطوة..
وفي هذه الأثناء، سيكون مؤلماً على المنتفضين والمتعاطفين معهم القبول بالتعامل مع سلطة تُجدد لنفسها في ذكرى انتفاضتهم الاولى، لكن الواقعية السياسية تفترض، مع الثورة الإعلامية والرقمية، خوض نضال تراكمي تُعول به على الزمن، لتحقق بعد مخاض طويل ثورتها التي ستتمثل في قلب مفاهيم النظام مع استحالة الانقلاب عليه في ظل ترسخه الطائفي المحمي داخلياً وإقليمياً وخارجياً.