بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 شباط 2023 12:00ص الإدارة الذاتية

حجم الخط
أحوج ما يكون عليه الناس اليوم، هو الإدارة الذاتية لأزماتهم. فحين تغيب الإدارات العامة للقطاعات، وتلحق بها الإدارات الخاصة، لا يبقى للإنسان، إلّا أن يتدبر شؤونه الخاصة، شؤونه البيتية والعائلية والأسرية نفسه بنفسه، حتى يظل محافظا، على وجوده وعلى حياته، وعلى ما يحتاج إليه، في عصر كثرت فيه الحاجات، على قاعدة من الحكمة التي تقول: «دبّر راسك».
لم يتنبه اللبنانيون إلى أهمية قطاع الطاقة والمياه في بلادهم، إستهتروا بها كثيرا. أهدروها وأفسدوها، وجعلوها في أسفل الدرجات.. حتى باتت اليوم عزيزة الوجود في البلاد.
الطاقة والمياه للبلاد، مثل الطاقة والمياه للإنسان، ولكل كائن حي على الأرض، مهما كانت عليه درجة وجوده، ودرجة حياته، على حد سواء.
الإنسان وسائر الكائنات الحية، عماد حياتها الطعام والشراب. فإذا ما قلّ طعامها وجفّ شرابها، تيبّست عروقها، وفقدت حيويتها وصارت إلى الموت درجة درجة حتى الزوال. فهل يعيش إنسان بلا طعام ولا شراب؟ فهل يعيش أي كائن حي، بلا ماء ولا غذاء؟
هكذا هي البلاد أيضا أحوج ما تكون إلى الطاقة والمياه. فبعد إفتقادها التدريجي، تعطّلت الإدارات كلها، لأن الطاقة والمياه، هي أصل كل النشاطات الحيوية عند الناس، وفي داخل البلاد.
من مبلغ السخرية، أن نجد كل القطاعات في البلاد، تبحث عن الطاقة، لتدير محركات البحث، تماما، مثلما يفعل الإنسان، قبل النزول إلى العمل، فيتزوّد بالماء والغذاء. من مبلغ السخرية، أن نجد جميع الإدارات الخاصة والعامة، تبحث عن الطاقة التشغيلية لها، وليس بعيدا من ذلك، إقفال المستشفيات المتعثرة، لأنها لا طاقة لها على الإستمرار في إدارة الشأن الصحي، بلا طاقة، من مازوت وكهرباء. من مبلغ السخرية أيضا، أن يتم البحث في وزارة التربية والتعليم، عن خمسة ليترات من البنزين للمدرّسين، وذلك بدل إنتاجية لهم، فهم لا يستطيعون الذهاب إلى مدارسهم مشيا على الأقدام، في ظل غلاء أجور النقل، لغلاء أسعار الغاز والبنزين والمازوت والكهرباء.
تفتقد البلاد اليوم للطاقة والمياه، ولهذا نراها تصاب بالشلل التام، فقد أهدرناها منذ زمان طويل، وصرنا نبحث عنها، بعد ذلك، في كل هذا الليل الطويل. لم نعر إهتماما لها. ولم ندرك أنها، أصل الإدارة والحياة في البلاد. عادت البلاد قرونا إلى الوراء. وعدنا نبحث عن إدارة ذاتية لكل المعضلات. صار التعليم إدارة ذاتية، في ظل إقفال المدارس والثانويات والجامعات.  صار الإستشفاء إدارة ذاتية، في ظل فقدان الطاقة والمياه عن المستشفيات. غابت جميع الإدارات العامة والخاصة عن السمع، لم تعد بمقدورها تحريك عجلة ولا دولاب، ولا تحريك آلة، ولا إرسال موظف، ولا إرسال عامل. فقد صارت الإدارات العامة إلى الشلل التام. وها هي الإدارات الخاصة تلحق بها، فتفتقد الطاقة والمياه، وتتعطّل فيها دورة الحياة.
ولم تكن أوضاع الإدارات في القطاعات غير المدنية بأفضل حال منها، في القطاعات المدنية. فتراها كل يوم في شكاية عبر وسائل الإعلام. تشكو فقدان الطاقة والمياه للإدارات. وتشكو فقدان الماء والغذاء للأفراد. وتكثر الشكاوى من فقدان قيمة الرواتب، التي ما عادت تغطي الضروري من الحاجات.
ماذا يفعل الناس، حين تتكاثر عليهم، طلبات الطاقة والمياه، لم يعد أمامهم من سبيل، إلا اللجوء للإدارة الذاتية، وإدارة حوائجهم، بكثير من الحيطة والحذر والتدبر، حتى يقطع عليهم هذا الوقت من الأزمات. ليس عليهم إلا النزول إلى سوق العمل في المدينة وفي القرى، في السهل وفي الجبل.. فقد أغلقت في وجوههم، كل الإدارات.. وليس آخرها قطاع المصارف والبنوك. ولهذا نراهم يستعيدون صورة التبادلات التجارية، في ظل هذه الأوضاع المأزومة، التي أحوجت القطاع المصرفي إلى الإغلاق.
الإدارة الذاتية، أصعب أنواع الإدارات. صار على الشخص، أن يدير شؤون بيته، نفسه بنفسه، ولا يعول من بعد على سائر الإدارات، التي أعوزها وأعوزه، فقدان الطاقة والمياه.
تعطّلت في البيت، جميع ما كان عنده من آلات: ركنت السيارة أمام البيت، أو إلى جوانب الشوارع الآمنة التي تطمئن صاحبها، وما عادت تتحرك، وبدأت تتعطل من الداخل، لا بطارية تشتغل لطول توقفها، ولا جهاز يشتغل فيها، لإنقطاع الكهرباء عنها. فلم يعد قادر على فتح بابها، وصار ينظر إليها من الخارج، والعفونة تضربها من الداخل، والأمطار تتسرب إليها. فلا يستطيع صاحبها أن يحركها، لفقدان الطاقة فيها، وصار يدير الخدمات المنزلية، على رجليه، إدارة ذاتية.
كذلك الأمر، إذ تعطّلت في البيت، جميع الأدوات الكهربائية: مكيف الهواء وبراد الماء، ومطحنة اللحمة في البيت، وكذلك الغسالة والفرن والخلاط. فصارت جميع هذه الآلات، من الأدوات الكاسدة. وصارت سيدة البيت، تدير شؤون المطبخ وشؤون الحمامات كما شؤون الصالة وغرف النوم والممرات، بالأدوات اليدوية. عادت كما كانت جدتها، قبل قرن، تستعمل الدست والطشت والطنجرة والنحاسيات. وكذلك المدقات اليدوية وبابور الكاز والشمعدان والقنديل والفانوس والشمعة القصيرة والطويلة، والنملية، بدل الثلاجة/ البراد. وكأننا في زمن ألف ليلة ولية، ولكن بلا شهريار، بلا شهرزاد.. بل بالنكد العائلي والأسري، حتى حدود المخاصمة والعناد.
عاد رب البيت لتعليم الأولاد، يعلمهم القراءة والكتابة، ويستعير الدفاتر المهجورة القديمة، لإتباعها مع الأولاد. صارت جميع الحجرات في البيت، حجرات مدرسية. وصارت غرف النوم وأسرتها، للعناية الطبية. وصار الأب والأم والأولاد، إلى مزاولة الإدارة الذاتية لشؤونهم المنزلية.
انقلبت حياة الناس في البلاد، رأسا على عقب. صارت سيدة البيت تخبز وتطبخ وتغسل وتكوي وتخيّط وترفو على يدها، تحيك الصوف في الشتاء، ملابس وكنزات للأولاد، وتفصّل البنطال والسروال. صارت سيدة المنزل متعددة الكارات.
لا يقصر سيد البيت، عن «ست البيت»، في مزاولة جميع المهن، لأجل إستمرار الكرامة البيتية له بين أهل بيته، وسائر أفراد أسرته. له دعاء واحد: يا قاضي الحاجات. تراه حطابا منذ الصباح. تراه إسكافيا في المساء. وطيلة النهار يصلح أعطال البيت: نجارا وسنكريا وكهربائيا. وكذلك عتالا: يحمل جرة الغاز على ظهره. يحمل برميل الماء. ويحمل إلى هذا وذاك، جميع حاجات المنزل من كيس الطحين، حتى كيس البرغل والبصل وشوال البطاطا والباذنجان والقرنبيط، بلا إستثناء.
لم يعد يهتم بالذهاب إلى عمله: نسي المدرسة والثانوية والجامعة. نسي مزاولة عمله في جميع الإدارات الخاصة والعامة، وصار يزاول الإدارة الذاتية لشؤون الخدمات المنزلية. صار «مسبّع الكارات».
يخشى الناس في لبنان، أن تنتقل الإدارة الذاتية، إلى ما يعرف في بلاد «الواق واق»، بالأمن الذاتي. فيصير أهل البيت حراسا على بيوتهم. ويسهر الرجل طول الليل، على أمن عائلته. ويرتب خروجه ودخوله إلى منزله من البوابات الآمنة. ويتخذ من الحراسة مهنة جديدة مضافة. وإذا ما توسعت الإدارة الذاتية، إلى الحياة الأمنية، فعندها، تعالوا لنطلق صوتا واحدا مع الفنان البلدي الراحل شوشو: آخ يا بلدنا...!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية