بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 أيلول 2022 12:00ص الانقلاب على الدولة

حجم الخط
لم تكن المعارضة في يوم من الأيام، إلا الوجه الآخر للسلطة.. سلطة تحكم بكل أدواتها، بكل هيئاتها، بكل أجهزتها، بكل إدارتها، ومعارضة لها وجه السلطة الخبيئة. تخفي في منازلها، جميع أدوات السلطة الصريحة، وجميع إداراتها، وجميع هيئاتها، وجميع أجهزتها.. وتحضّر للإنقلاب على الدولة.
لم تكن السلطة، سوى سلطة صريحة، جريئة، متقدمة، «علنية». ولم تكن المعارضة للسلطة، سوى سلطة متوارية، سلطة خفية، سلطة مراقبة، سلطة الإنقلاب على السلطة.
مع إعلان دولة لبنان الكبير، برزت السلطة الحاكمة، التي صعدها الإنتداب. جسّدت الطبقة التي تريد من لبنان، وطنا سياديا بين مجموعة الدول العربية الناشئة. غير أنه يرتبط بالغرب، بروابط الحرية والعدالة والديمقراطية، ما أتيح له الإرتباط بها، من خلال نوافذ الغرب. وكان، على ضعف عوده، يريد أن يقوى، أن يصبح دولة قوية، ذات نفوذ واسع. وكان لا يرى في الغرب، إلا الوجه، إلا الواجهة، إلا الإتجاه.
كانت السلطة الحاكمة، جريئة في طروحاتها، جريئة في مواقفها، جريئة في نظرتها، إلى مجموعة الدول العربية، وإلى مجموعة الدول الأجنبية. تعقد الاتفاقات والاتفاقيات المناسبة لتوجهاتها في كل شيء، في كل أمر. ترى في الدول الغربية، مالها ومآلها. وترى في الدول العربية المتعاونة مع الغرب، طريقها للعروبة، وللتعاون، تحت سقف السيادة والعروبة الغربية.
وكانت الحاجات الضاغطة، لهذه السلطة الحاكمة، تجعلها محكومة بالمعاهدات السياسية والأمنية والإقتصادية، مع الدول التي رأت فيها وجه الصداقة والتعاون، من خلال متانتها الإقتصادية، ومن خلال ملاءتها المالية. نظرا لما تفتقد إليه السلطة من سيولة نقدية، ومن متانة تنموية.
وأما المعارضة، بما هي مشروع سلطة إنقلابية على السلطة الرسمية، من خارج الأطر الرسمية للدولة، ومن خارج المجالس، ومن خارج الحكومات، فقد كانت تستند إلى الدول الشرقية، وإلى الدول العربية ذات التوجهات الشرقية.
كانت السلطة الحاكمة، تجد سندها، في الدول الغربية، وفي الدول العربية، ذات التوجهات الغربية. بينما كانت سلطة المعارضة، تجد سندها في الدول الشرقية، وبين مجموعة الدول العربية، ذات التوجهات الشرقية.
لم ينعم لبنان، منذ نشوء الكيان. منذ تأسيس لبنان الكبير، العام 1920، بسلطة واحدة، بسلطة هادئة، بسلطة تتفرغ، لبناء الدولة، وتصير المعارضة، سلطة مراقبة تحت قبة البرلمان، كما هو الشأن، في الحياة البرلمانية، وفي الحياة الديمقراطية، التي يعرفها الكثير من البلدان المتطورة.
كانت سلطة المعارضة، سلطة إنقلابية بحق، سلطة معاقبة. كانت تستعين بالريف لفرض قوتها، لفرض حضورها. كانت تستعين بأحزمة البؤس حول المدن. كانت تحشد بالعصب الطائفي، وبالعصب المذهبي، وبالعصب الحزبي. كانت تستميل قوى النزوح واللجوء إلى جانبها، لتشكل قوة عظمى، ضاغطة. تشل معها عمل السلطة الحاكمة، عمل الدولة. وأما مشروعها الخفي، فهو أن تحل محل السلطة الحاكمة.
لم تنجح سلطة المعارضة الإنقلابية، في بسط سلطانها، على الدولة. ولم تنجح السلطة الحاكمة، في الإحتفاظ بكامل هيبتها وسلطانها في الدولة. كان التنازع على السلطة قائما، منذ تأسيس الكيان. وكانت الاختراقات التي تسجلها المعارضة تقوى وتضعف، بحسب الباروميتر السياسي، في الإقليم وفي العالم.
وعند نشوء مجموعة دول عدم الإنحياز، إنعكس ذلك على لبنان، حالا من الإستقرار والهدوء، ولكنه سرعان ما زال بزوالها.
وصلت المعارضة، بوجهها الإنقلابي إلى تقاسم السلطة، مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن، إلى لبنان، عقب معركة الكرامة، في أيلول الأسود، العام1970. وكانت قد إستمرت هذه المرحلة لعشر سنوات. وكانت مرحلة «حكم المعارضة» الإنقلابية، لعشر سنوات أيضا.
تراجعت السلطة الحاكمة، تراجع قرارها. فنشأت على هذه الضفاف، معارضة إنقلابية، للمعارضة الحاكمة، وسلاح إنقلابي معارض، في وجه السلاح المعارض. وتشرذمت الدولة، وفت في ذراعها. فت في عضدها. ودخلت البلاد في حرب أهلية لعامين متتالين، بين عامي 1975-1976.
اشتدّت معارضة «حكم المعارضة».  صارت القوى الإقليمية المجاورة على أبواب المدن وداخل العاصمة.  ثم لم تلبث أن سقطت المعارضة الحاكمة، بالضربة القاضية، بعد أن تمكنت منها قوى معارضة المعارضة الحاكمة.
كان مؤتمر الطائف، يريد إعادة إستنهاض الدولة، على أساس من التآذر، لإعادة البناء. ولتعمير البلاد بعد خرابها، ولوصل ما إنقطع بين القيادات المتصارعة والمتقاتلة. بحيث يتيح ذلك إنتاج سلطة موحدة، يدخل فيها قادة الميليشيات، بعد يتم حل أجنحتها العسكرية، وبعد أن تسلم سلاحها لقوات الردع العربية.
إنتاج السلطة الجديدة، على أساس من الطائف، لم يدم طويلا.  سقط أيضا بالضربة القاضية.  وصار في لبنان معارضتان: معارضة منزوعة السلاح، ومعارضة مسلحة. وأما المعارضة الثالثة، فقد كانت معارضة التيار الوطني الحر،  وكانت في الظل. وكانت تنتظر جلاء المعركة. لم يعد هناك في لبنان من سلطة حاكمة إذا، بعد العام 2005. صار المهموس أقوى من المأنوس.  صار الإنقلاب على الدولة، واضحا وضوح النهار. وتسلم المعارضون للطائف البلاد بالقوة الرديفة، للقوة التي إجتاحت بيروت في أيار من العام2007.
تراجع الإنماء والإعمار، وإنهار «إنموذج هونكوغ» المأمول، وتقدم عليه «إنموذج هانوي». وصار لبنان تحت حكم المعارضة الجديدة. تؤازرها وتعضددها، المعارضة المسلحة. ذات السلاح المجرب على الساحة اللبنانية. تآذرت جميع هذة القوى المعارضة تحت جناح المعارضة الإنقلابية.  وتراجعت القوى المعارضة لها. أفسحت لها في حكم البلاد، بعد إتفاق الدوحة.  وخصوصا، بعد وصول التيار  الوطني الحر (المعارضة الثالثة)،  إلى السلطة. ودخول البلاد في عهدته، يسانده ويعاضده أهل المعارضة المسلحة.
والسؤال الذي يدور على كل شفة ولسان: هل كان يمكن أن ينجح حكم المعارضة، المنقلبة أصلا على فكرة الدولة. على سيادة الدولة. على مستقبل الدولة. ولو بالتشارك وبالتعاضد، مع التيار الوطني الحر، المعارضة الثالثة. تلك كانت بحق، هي المعضلة. تلك كانت بحق، هي المسألة.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية