بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 تشرين الثاني 2019 06:00ص التكليف قبل التأليف.. هل مَنْ يُذكِّر بأن النظام اللبناني ليس رئاسياً

الرئيس الحريري يقدم كتاب استقالته للرئيس عون الرئيس الحريري يقدم كتاب استقالته للرئيس عون
حجم الخط
مع كل ساعة تمضي، يثبت العهد أنه ماضٍ في سياسة إهدار الوقت وتضييع الفرص لإنقاذ لبنان مما يتخبط به منذ ثلاث سنوات فيما الحاجة ماسة وضرورية لخطوة انقاذية سريعة؛ إما تحدياً لإراداة الناس، كما حصل، الأحد، خلال التجمع الحزبي في شارع في بعبدا، والذي دعا إليه «التيار الوطني الحر» تأييداً لرئيس الجمهورية ميشال عون ولرئيسه جبران باسيل، رداً على ثورة الشعب في ساحات لبنان. أو مكابرةً أمام للدستور، من خلال عرقلة انجاز الاستحقاق الحكومي تكليفاً وتأليفاً بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، ليس بوصفها أولى نتائج ثورة 17 تشرين، بل بهدف المماطلة لبلورة تأليف طيّع قبل التكليف، أو الايحاء، بإصرار مستهجن، وكأن النظام اللبناني تحوّل إلى نظام رئاسي! 

فتأخير تحديد موعد الاستشارات النيابية، حتى لو تحددت اليوم أو غداً، سقطة كبيرة لمشروعية الحكم (ولو لم تكن مخالفة دستورية)، فهي مراوحة غريبة وغير مفهومة، ذلك أن البلاد تعيش منذ أسبوعين ونيف ظروفاً غير عادية، والشعب، غالبية الشعب، أعلن عدم ثقته بالسلطة الحاكمة وطرح مطالب في مقدمها تشكيل حكومة انقاذ، قبل المضي في السعي لانجاز تغيير كامل على مستوى السلطة، وبذلك لا يمكن فهم هذا التلكؤ إلا بوصفه طعناً لروح الدستور، وتفخيخاً للحياة الوطنية، ومحاولة للالتفاف على ثورة الشعب. 

تآكل رصيد الرئاسة

بالنسبة للأمر الأول، كان يكفي أن يطل رئيس الجمهورية يوم الأحد ليعلن ما يشاء من مواقف ومبادرات لتكون مظلة للمؤسسات الدستورية ولفئات الشعب، خصوصاً وأنه سبق أن اعترف قبل أيام أن ثمة وجعاً لدى الشعب، وأن مطالبه محقة، وأنه يرفض منطق الانجرار لشارع مقابل شارع، معلناً السعي لتشكيل «حكومة تكسب ثقة الشعب قبل البرلمان»، لكن الذي حصل أن مكانة الرئاسة استحالت أداة لحماية باسيل، وأن قصر بعبدا سُخّر كمنبر له لمهاجمة خصومه واتهامهم بالفشل والفساد، ناهيك عن شكليات أخرى كمرافقة عناصر وضباط الحرس الجمهوري لباسيل، ومشاركة مديرين عامين في تظاهرة حزبية!! وكل ذلك يأكل من رصيد العهد المعنوي، المتآكل أصلاً، فضلاً عن مقام الرئاسة الأولى. باختصار ما حصّل أظهر عون وكأنه رئيس «التيار الباسيلي» أما الجمهورية وشعبها ففي مكان آخر. 

الدستور ليس وجهة نظر

في المسألة الثانية، وخصوصاً ما تردد غداة استقالة الحريري عن استدعاء باسيل لنواب ووزراء سابقين سنّة، طامحين وطموحين، للتشاور معهم قبل إصدار رئاسة الجمهورية مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة، فهذه الخطوة تثبت أن باسيل يتصوّر نفسه أنه بموقع من يعيّن الوزراء ويقيل الحكومات، أو بشكل أدق، أنه بات مرجعية فوق الدستور والقانون والدولة والمؤسسات! يصرّ هذا الرجل على المزج بين وظيفته وطموحاته، متخذاً من رئاسة الجمهورية جسراً لذلك حتى لو أدى إلى سحق الدستور.

ليست المرة الأولى التي نشهد فيها استسهالاً بتجاوز الدستور واتفاق الطائف في سياق عملية استعراض العضلات في إدارة الحكم من خلال السعي لمصادرة أدوار وصلاحيات تحت عناوين شعبوية ومصلحية وكيدية لتحقيق مكاسب وبطولات وهمية. قبل ذلك، وعلى امتداد 3 سنوات من عمر العهد، حصل كثير مثله.

بعيد انطلاق تظاهرات 17 تشرين، وقد بات معروفاً أن عون لم يكن متمسكاً ببقاء باسيل في الحكومة، فجأة جرى تسريب شرط أن بعبدا تتمسك بربط إخراج باسيل من أي تشكيلة حكومية عتيدة، بإستبعاد الحريري نفسه، مع العلم أن هذا الأمر غير منطقي شكلاً ورمزية، فباسيل لا يوازي الحريري أهمية، ومقام رئاسة الحكومة موازٍ لمقام الرئاسات الأخرى ولا يقارن بالوزراء. بكل الأحوال، تتقاطع آخر المعلومات، أن الحريري ومعه أكثر من جهة سياسية، باتوا على قناعة بأن سياسة الإنكار التي يتبعها عون وباسيل، ورفض السماح باجتراح مبادرات انقاذية، والتمسك بإدراج باسيل ضمن أي تشكيلة حكومية، سيعقّد الأمور، ويجعل من الحريري غير متحمس لطرح مزيد من المبادرات. 

كذلك، ما تسميه مصادر الرئاسة «المعايير الموحدة» في عملية التشكيل (تكنوقراط رئيساً وأعضاء)، وهو كما لا يخفى مسٌّ بالدستور أيضاً على غرار التلاعب الذي حصل خلال عملية تشكيل حكومة «كلنا للعمل» وما سمّي حينها من قبل باسيل معايير وآليات التأليف وذلك يكشف بحدّه الأدنى مجازفة إن لم نقل أنه يكشف محاولات ابتزاز أو ضغط. 

ومثل ذلك ما روّجته مصادر بعبدا بعد تقديم الحريري استقالته من أن رئيس الجمهورية سينظر بقبول الاستقالة أو الطلب من الحريري التريث بقراره، مع ما يعنيه هذا الكلام من هرطقة دستورية (المادة 69) في لحظة وطنية حساسة.

للمرة الألف يجب التنبيه أن نظامنا هو نظام جمهوري برلماني، وليس نظاماً رئاسياً، وأن الصلاحيات مكرسة، وهي موضع احترام، وهي إلى كونها ثوابت دستورية، فإنها أعراف وطنية مستقرة لا يستطيع أيّ كان تجاوزها، فضلاً عن اللعب بها. وعليه من الضروري الكفّ عن تحميل الدستور ما لا يستطيعه، ومن الضروري أيضاً التذكير بأن هذه أمور لا يمكن لألف سببٍ وسبب التنازل عنها أو التهاون فيها أو الانتقاص منها شكلاً أو مضموناً لأي سبب. 

منذ فترة، طرح رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ما سماه «مخاوف» على اتفاق الطائف، لناحية «الاستهتار بتطبيقه زمن الوصاية السورية، وبعد ذلك تعمد الإساءة إليه وتفريغه في زمن الهيمنة»! ثم عاد أمس، وغرّد عمن «يسقط الدستور تحت شعار التأليف قبل التكليف من أجل مصالح الاستبداد لشخص وتيار سياسي»، في الحالتين أصاب جنبلاط وإن كان لا يريد تحديد الجهة/الجهات المتورطة بالطعن بالطائف، مكتفياً بالتذكير بـ«اننا لسنا في نظام رئاسي»، فإما أن تدار شؤون الدولة بضوابط وقيم ونظام مؤسساتي أو يفتح الباب لفوضى لا يعلم أحد أين توصل. وبهذا المعنى إن مسؤلية التنبيه من تكريس أعراف غير دستورية في إدارة الحكم هي مسؤولية كافة القوى السياسية التي تؤمن بالطائف، وعليها واجب الإضاءة على خطورة ما يجري، ناهيك على مخاطر الإمعان في انتهاج الشعبويات في لحظة تعاني البلاد في اقتصادها وماليتها واستقرارها، وعدم التنبه لذلك يضع لبنان على سكة الانزلاق نحو مزيد من الانهيار والتفكك والهشاشة.. وربما ما هو أخطر.