فَقدَتْ بيروت وجهاً عريقاً من وجوهها الكبار، هو الحاج فيصل سليم قواص، مستشار دولة الرئيس صائب بك سلام رحمه الله، والإعلامي والصحافي المحبب والدمث العف اللسان، وصاحب الكلمة السواء، والمتّزن والمنفتح، ووالد عضو مجلس نقابة محرري الصحافة الأستاذ نافذ، ووالد المستشار الإعلامي لدار الفتوى ومفتي الجمهورية اللبنانية الأستاذ خلدون، ووالد أمين الإعلام في نقابة مخرجي الصحف والـ«غرافيك ديزاين» الأستاذ ناصر؛ والذي لازم الرئيس صائب بك في كافة مراحل حياته، وأخلص له، ثم أكمل الطريق إلى جانب نجله دولة الرئيس تمام سلام أطال الله بعمره.
حياة الحاج فيصل كانت مليئة بالعطاء وزاخرة بالمجد، ففي العام 1968 بدأت علاقته بالرئيس صائب بك سلام إبّان الانتخابات النيابية، ومن ثم في العام 1978 عيّنه الرئيس سلام مديراً للمكتب الإعلامي في القصر، وهكذا توطّدت علاقته به، كما بقي بقربه حوالي ربع قرن، ورافقه في عمله في المقاصد، كما رافقه كصحافي، ورافقه كذلك في جميع زياراته.
في الصداقة، كان متجاوباً، خفيراً، حذراً، وعلى تحفّظه الظاهري يعرف أن يثق، ينصت وينصح. لقد كان كلّه قلباً، وإنما من دون مباهاة. كان يضع الأشخاص في إطارهم الحقيقي، كما الأشياء، دفعة واحدة، معه المناقشات تأخذ شكل اتصالات تلغرافية، كونه يتمتع بنظام للمعلومات الفكرية وبرصيد ثقافي يسمحان له بالعمل كمن يمتلك أجهزة اتصال وإرسال.
إذا لم يتمكن محدّثه من متابعته، كان يخفي، وبصعوبة، عدم قدرته على الاصطبار، وسرعان ما يلطف ذلك بما لديه من نزوع إنساني عميق. كل من عرفه مؤخراً في دائرة الرئيس تمام سلام، يعرف أنه كان مسكوناً بالرغبة المستمرّة لمعرفة كل شيء والإحاطة بكل شيء، إلا أنه عرف أن يحتفظ في أكثر من مجال بهذا الجانب من الهواية الذي كان يمنح شخصيته سحراً تصعب مقاومته. لقد كانت علاقته الإنسانية من أكثر العلاقات جاذبية.
لغيري، وبخاصة لزملائه، أن يعدّدوا ما أسداه الحاج فيصل إلى الإعلام اللبناني. بالنسبة إليّ، يمثل الحاج الرجل الذي ساهم بانتقال الإعلام في لبنان من العصر الحرفي إلى الصناعي، مع كل ما يفرضه هذا الانتقال من شجاعة وإعداد وخيال خلاّق، ولهذا تم منحه أوسمة عديدة، أبرزها وسام الأرز الوطني، ووسام المقاصد المذهّب، والوسام الذهبي، ودرع الهيئات والجمعيات واللجان الاجتماعية.
عاش الحياة بكل أشكالها وبكثافة، كما كان يحسن العيش. لقد حملت إليه، من دون شك، الكثير من المسرّات وبعض الخيبات. فعرف أن يتلقّى هذه وتلك، كما كان يحسن أن يفعل رجل من طينته. حتى الدقيقة الأخيرة من حياته، بقي يجسّد شهادة أولويّة الذهن وبواعث التغلّب على صعوبات الحياة.
كانت نفسه العصيّة والمنظّمة في آن، موسومة بالصرامة الثقافية الأكثر تصلّباً، والرّقة الأكثر نفاذاً، تسرّ إذ تسخر الكلمة، وبأية بلاغة، لخدمة فكر هو في حال استنفار دائم. وإذا كان الحاج فيصل استحق شكر الصحافة اللبنانية، فلأنه نتيجة لاستشرافه المستقبل بعد عدة عقود، كان يولي اهتمامه بالأجيال المقبلة ومصيرها. فكل ما أتى به سواء في الإعلام أم في الصحافة، أتى تحت ذلك التأثير، ولا يمكن شرحه بطريقة أخرى. وكان الحاج يخفي ما وراء هذه الطاقة والمقدرة الكامنتين كلّهما، وخلف شيء من التحفّظ يطبعه الحياء بطابعه، مروءة قلّ مثيلها.
كما كان الجذاب، الوفي، الصادق، الشديد الاحتشام في عواطفه والشهم، يجتنّب غالباً الكشف عن دخيلة نفسه، بفضل نمط تفكيره، وأجوبته الفلكلورية الحاضرة. وكانت رياضته الفكرية المفضّلة في هذه الأيام العصيبة التي نعيشها، نقد ذاته، لعلّه يكتشف نقاط الضعف في رأيه فيتلافاها، كما أنه كان رحب الصدر لرأي الآخرين.
برحيله تختفي فلسفة للإعلام والصحافة ومناقبية جعلتا منه وجهاً بارزاً وأستاذاً في الفكر لجيل متعطّش إلى التعبير وإلى اتخاذ موقف إزاء كل مشاكل الساعة. ونتقدّم بتعازينا القلبية الحارّة وبمواساتنا الأخوية المخلصة من الأخ الكبير الأستاذ نافذ قواص، وسائر أبناء الفقيد الأساتذة خلدون وناصر وعامر وزياد ومحمد ومنى، مشاطرينهم ألمهم بمصابهم الجلل، ومعبّرين لهم عن مشاعر التعاطف والأسف لرحيل الحاج فيصل، سائلين الله عزّ وجلّ أن يسبغ عليه أثواب عفوه ومغفرته، ويتغمّده بواسع رحمته ورضوانه، ويسكنه فسيح جنانه في أعلى عليين، ويلهم أولاده وسائر أفراد عائلته الصبر والسلوان، والسكينة وحسن العزاء، وألا يريهم مكروهاً من بعده.
* محامٍ وأستاذ جامعي