بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 تشرين الأول 2021 12:02ص الحفاظ على الهوية هو الحفاظ على الوجود

حجم الخط
من يقرأ التاريخ بشكلٍ علميٍ ومنهجيٍ يدرك حقيقة ثابتة وهي أن الحضارات لا تموت إنما تنتحر وتقتل نفسها بنفسها، وهذه الأحجية تحتاج إلى تفسيرٍ أكثر كي نفهم المقصود منها. إن كل أمةٍ وحضارة لها مقوماتٍ للصمود في وجه التحديات والصعاب التي تواجهها من حربٍ إقتصادية أو حربٍ عسكرية وغيرها من مخاطر قد تؤدي إلى هلاك الأمة وضياعها، ولكن الأمة لا تموت إذا حافظت على الأسلحتها الثقيلة وهي الهوية التي لا يمكن أن تموت إذا حافظت عليها وحافظت على تراثها التاريخي.

كي نفهم ما هي الهوية لأنها كلمة فضفاضة، فهي تحتاج إلى شرحٍ وتبحرٍ فيها كي نستطيع أن ندرك مدى خطورتها وأهميتها في آنٍ واحد، دعوني أوضح ما هي الهوية بشكلٍ بسيط وسريع عبر إعطاء أمثلة تبسط الأمور، عندما غزت فرنسا الجزائر مع بداية حقبة الإستعمار الأوروبي، لم تقم فرنسا فقط بالغزو العسكري إنما قامت بإلغاء الهوية الجزائرية كي يذوب المواطن مع الهوية الجديدة الفرنسية ومع الوقت يصبح التطبيع أمرًا واقعًا غير مفروض بقوة السلاح إنما بقوة الهوية السائدة التي دمرت الهوية السابقة وهذا ما لم يحصل، أما في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، علمت الحكومة وقتها أنهم قد خسروا الحرب وبدأوا بالتفاوض مع إشتراطهم على إبقاء الأمبراطور في منصبه كشرط أساسي للإستسلام، ولكن ما قيمة الإمبراطور مقارنةً بحجم الدمار الذي حل بالبلاد؟ إنها الهوية التي لن يتركوها وحافظوا عليها رغم ضربهم بقنبليتن نوويتين وإستسلامهم للأميركيين.

اليوم يعاني لبنان من أزماتٍ متعددة على المستوى الإقتصادي والنقدي وغيره من أزماتٍ تعصف بالبلاد، ولكن الأخطر هي ذوبان الهوية وتحولها بشكلٍ واضح وصريح إلى هوياتٍ متصارعة، وكما نعلم أن لبنان يتعرض إلى إجتياحٍ إيراني بشكلٍ كبيرٍ وعملية غزو ثقافي وتغيير لهويته، وهنا تكمن الخطورة، لأن الإيراني تشبع بهوية متطرفة وحادة مقابل هوية أصبحت هشة وقابلة للسقوط، فهذه الهوية هي تمثل أحد الأسلحة في وجه الهجمة التي نتعرض لها على كافة الأصعدة، من الفرنسة والتغريب وغيره، فأصبح المواطن اللبناني يكاد يُعرف أنه لبناني لأنه أنسلخ عن هويته، فالهوية هنا تعبر عن ثقافته الوطنية والقيم والمبادىء المشرقية المشبعة بالتنوع الطائفي، فالهوية تعبر عن المأكل والمشرب والثياب، أما اللغة فهي جوهر تلك الهوية اي اللغة العربية، فإن سافرنا إلى ألمانيا أو تركيا فأنهم يرفضون أن يتكلموا إلا بلغة الأم، فإن اللغة ترمز إلى التمسك بالأرض والتاريخ والحاضر، كما أن الدين هو جزء من الهوية التي يجب أن لا تنسلخ عن الهوية الوطنية وهي لا تناقضه إطلاقًا، لا بد من التمسك بالهوية الدينية لكل الطوائف التي تعزز من حضارة الدولة وحضور الشعوب لمواجهة أي غزو فكري وثقافي، كل تلك القيم تعزز وتشكل منظومة كاملة من المبادىء والتراث حتى تصبح كحلقات العقد المتراصة فيما بينها غير قادرة على التفلت أو التفكك.

هذا على المستوى الوطني، أما على مستوى الطائفة السنية، هذه هي أهم مشكلة تعاني منها الطائفة وهي التخلي عن هويتها كي تثبت للآخرين إنفتاحها مع العلم أنها الطائفة الوحيدة المنتشرة في كل بقاع لبنان، فاليوم معظم القيادات في هذه الطائفة تحاول أن تثبت أنها تتقبل الآخرين عبر إلغاء الهوية والتنكر للتاريخ مثل اللغة واللباس والأسماء وأسماء المؤسسات التابعة للطائفة وغيرها من أمور، ولكن هذا الأمر يؤدي إلى خسارة البيئة الحاضنة وإلى خسارة إحترام الآخرين، فالهوية لا يمكن التخلي عنها لأنها تعني الموت البطيء والإضمحلال كما أن التمسك بها لا يعني إلغاء الآخرين لا بل هي تعتبر مساحة للتلاقي ضمن ضوابط ثقافية وقيمية معينة.

لبنان أصبح لقمةٍ سهلةٍ لمجرد التخلي عن هويته وهي السلاح الأقوى لمواجهة كل الأخطار المحدقة وعلى رأسهم الخطر الإيراني الذي لا يكتفي بإحتلال الأرض إنما تغيير ثقافة المنطقة وهذا ما حصل بالفعل في كل من سوريا والعراق.