منذ نشأة لبنان الكبير في سنة 1920، يعاني هذا الكيان حديث النشأة والولادة من عدة أزماتٍ عقيمة وعميقة أدت إلى صراعاتٍ وحروبٍ، ولكن الأزمة التي تعتبر أكثر خطورةٍ والتي تهدد وجود ذلك الكيان هي عدم وجود هوية وطنية جامعة قادرة على أن توحد جميع أبنائه تحت سقف المواطنية التي تساوي الجميع في الحقوق والواجبات، فإنه كما هو معروف إن الأمم بفهومها التقليدي في الفلسفة السياسية تحتاج إلى هويةٍ واضحة معالم وهذا ما لم نصل إلى في لبنان، وهذا يفسر نشوب حروبٍ كل فترة، فإن المذاهب والطوائف التي تشكل لبنان كونت هوياتٍ طائفية بدايةً ثم كونت بعد ذلك هوياتٍ سياسية وهنا تكمن خطورة الأمر، وهذا وإنعدام الهوية يعود إلى عدة أسبابٍ منها إختلاف المصالح والثوابت والقيم وحتى الأصول القومية واللغوية.
أما اليوم وخصوصًا بعد ثورة 17 تشرين، فلقد تشكل خطين لا يلتقيان في السياسية، الخط الأول يمثل أحزاب السلطة وجمهورهم الذي يتألف من كل الطوائف، وهذا الخط يعتبر السبب الرئيسي الذي أوصل البلد إلى ما وصلنا إليه من إفلاسٍ وتردي في الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية بشكٍل رهيب، بسبب الخط الأول تشكل الخط الثاني الذي جاء كردة فعلٍ على سلوكيات الخط الأول ويعرف المجتمع المدني الذي يتألف من مجموعاتٍ ثورية نشأت أثناء الثورة ومجموعاتٍ سياسية وأحزابٍ جديدة وأطرافٍ أخرى تسعى إلى أن تكون البديل عن السلطة الحالية وهي ترفع شعار العلمانية كحلٍ للطائفية، ولكن هذه العلمانية ليست جزئية أي لا تقتصر فقط على العلمانية السياسية بمعناها التقليدي أي فصل الدين عن الدولة، طبعًا هذا المصطلح هو تسخيف للواقع لأن العلمانية التي ينادون بها هي شاملة أي تشمل كل مناحي الحياة والليبرالية المتطرفة وهي إلغائية بطباعها وتطبيقها السلوكي، فلقد شكلت هذه العلمانية هويةً متطرفة لا تقل خطرًا عن الطائفية البغيضة وهي تنادي برزمة أمور تؤدي إلى ضرب مؤسسة العائلة وتنادي بالشذوذ وبإلغاء المحاكم الدينية وطرح قوانين هدفها إنحلال المجتمع بقيمه وأخلاقياته إن كان بقصد أو غير قصد فالنتيجة واحدة، والأخطر أنهم لا يتقبلون الرأي الأخر ولا يقبلون أن يتشاركوا في صنع القرار. فهذان الخطان لا يمثلان شريحة واسعة من المجتمع الذي يرفض منطق السلطة الحالية ونهبها للمال العام ورفع شعار الطائفية ولكنهم أيضًا يرفضون المنطق الآخر وهو العلمانية المتطرفة وتشعباتها. من هذا المنطلق لا بد من إطلاق مشروع مناهض للخطين وهو الخط الثالث الموازي وهو المجتمع المدني المحافظ.
كنت أعتقد أن أزمتنا الحالية في لبنان خصوصًا والعالم العربي عمومًا أساسه سياسي الذي أدى إلى ثوراتٍ وصراعاتٍ، ولكن للأسف هي أعمق من ذلك بكثير فلن أدخل في تفاصيلها لأنها تحتاج إلى مجلداتٍ، ولكن جوهر المشكلة هو غياب المنظومة الأخلاقية التي هي رافعة للهوية الوطنية فلا وطن ولا مواطن دون منظومة القيم والأخلاق، فهذا هو جوهر الخط الثالث أو المجتمع المدني المحافظ وهو الحفاظ على الهوية من تراثٍ وأخلاق وتاريخ ولغة ومؤسسة العائلة، قد يسأل البعض من خلفية حاقدة أو من نية صادقة فهل هذا التيار هو مربوط بفئة طائفية معينة؟ إطلاقًا وهي ليست حركة دينية، قد يكون إنسان غير ملتزم دينيًا ولكنه ضد مبدأ المساكنة وهو رجل محافظ بطبيعته الفطرية وليس الدينية، فإن الحزب الجمهوري في أميركا هو محافظ حيث يرفض مبدأ الإجهاض، من هذا المثال ندرك أن هذا التيار هو لكل الطوائف دون إستثناء، فإن المسيحي له هويته الدينية المختلفة عن الهوية المسلمة، ولكن الإثنان يشتركان بالقيم والثوابت وأهم نقطة في المصلحة أيضًا، فمصلحة كل الأطراف هي بقاء لبنان كنموذج يعيش فيه الجميع مع الحفاظ على هوياتهم المختلفة ولكنهم يتفقون على الثلاثية المذكورة «القيم والثوابت والمصلحة».
أصبح التيار المدني المحافظ «الخط الثالث» حاجة وضرورة للكثير من الناس الذين يرفعون شعار التغيير الحقيقي ولكنهم لم يجدوا تطلعاتهم السياسية والتغييرية في أي طرفٍ من الأطراف الحالية السلطة والمجتمع المدني الحالي.