بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 كانون الثاني 2022 12:00ص الدكتورة عائدة نعمان

حجم الخط
يشيّع لبنان اليوم الدكتورة عائدة سلمان نعمان إلى مثواها الأخير، ويذرف دمعة حرّى، على هذه السيدة الفاضلة، التي كانت جمعيات بيروت تضجّ عن حياتها المليئة بالعطاء والزاخرة بالمجد. في كل مرحلة من حياتها كان لها صولة وفي كل ميدان جولة، في صباها وفي شبابها وفي كهولتها وفي كبرها، جهاد لا ينقطع لخير المجتمع والناس، وفي التعليم العالي لا تتوقف من أجل مساعدة الطلاب ومدّ يد العون لهم، حركة دائبة ومتواصلة في الجامعة اللبنانية الأميركية، لا تعرف اليأس في الأزمات، ولا التردّد في الملمّات، ليّنة في موضع اللين، وتقطع كالسيف في مواطن الشدّة، الجرأة في شخصيتها عنوان، والحكمة والإقدام في سلوكها صنوان. يوم كانت تخلو الساحة من الحكمة في إدارة الجامعة اللبنانية الأميركية، يفزع الأساتذة الجامعيون إلى الدكتورة عائدة لمساعدتهم، ويوم يعز الأقدم وتبهت الجرأة عند الطلاب، يهرعون إلى الفقيدة لتأمين فرص عمل لهم، وتخفيض أقساطهم ومراعاة أوضاعهم المعيشية.

الدكتورة عائدة نعمان لا يمكن اختصارها بكلمات، ويكفيها فخراً أنها تزوجت من الأخ الكبير معالي الوزير الدكتور عصام نعمان. لقد تعمّقت معرفتي بالدكتورة عائدة، عندما كنت أتردّد إليها إلى الجامعة اللبنانية الأميركية لمساعدة رفاقي وتأمين فرص عمل لهم في الجامعة وتخفيض أقساطهم الجامعية، حتى أصبحت أتباهى وأفتخر بمعرفتي بها، ومن المتحمسين لاستمرار عملها الإنساني بأبواب مشرّعة ونوافذ مفتوحة على التقدم والحضارة، والتطور في مجالات التعليم العالي.

خلاصة ما تعلّمته من الفقيدة، في الشكل تلك الأناقة الملفتة في المظهر الخارجي، فارتدائها اللباس المناسب في الوقت والمكان المناسب، وبألوان منسجمة ومتناسقة دائماً، كانت إحدى القواعد الذهبية المتعلقة باللياقة الاجتماعية، واحترام الآخر، وسمة من سمات الحضارة، التي اختصت بها دائماً الراحلة.

وكنت أعرف أيضاً، أن في حياة الدكتورة نعمان نظام وتنظيم، فالرياضة لها دورها والثقافة والمعرفة، والمطالعة لها دورها، أما في الوطنية فلها دورها الآخر، فعند الدكتورة لكل مقام مقال.

أما ما تعلّمته في الجوهر من الدكتورة نعمان كان مهماً جداً، وأهم ما تعلّمته منها، كان تخطّي الصعاب، وتجاوز الأزمات الحرجة، والشموخ أمام غيلة الدهر، وغدر الأيام.

وعبارة تعلّمتها منها، ولفتت نظري أثناء المحن، وهي أن كل مصيبة تصيبني ولا تميتني قوة جديدة لي، هذه الحكمة ما زالت تدّق على مسامعي حتى هذه اللحظة. واعترف أنني استعرت منها ومن زوجها الأخ معالي الوزير عصام نعمان في خضمّ المصائب، وعند أصعب الظروف، أو مفارق الطرق، سلاحهما الشهير وهو الموقف الصريح الواضح، دون لفّ أو دوران. ولم يحن الأوان بعد الآن لأحكي لكم حكايات ومآثر، وعبراً كثيرة تعلّمتها منهما، تصلح أن تكون دروساً يتعلّمها التلامذة في المدارس، وشموعاً تنير طريق الظلام أمام الأجيال الصاعدة.

آمنت بالعلم رسالة نور وحضارة وتفتح، وطبّقت كل ذلك. طوال حياتها في خدمة العلم، وأعطت الشباب وتعاونت معهم حتى أصبحت في سن متقدمة. سيدة فاضلة خاطبت الزمن البعيد، اختصرت المسافات والمعادلات، وبسّطت الأمور، وظلّت وفيّة لمن بادلها الوفاء بوفاء أفضل. ليتساوى في فهمها العالم والجاهل، الغني والفقير، وأيضاً الموالي والمعارض.

في آخر أيامها، أحسّ الجميع بأن شخصية الفقيدة لا مثيل لها. شخصية لا تخشى المرض أو الموت، لأنها تحصّنت بإيمان قوي بالله عزّ وجلّ.

الدكتورة نعمان حتى الرمق الأخير علّمت الشباب كيف يكون النضال، حتى مع المرض، وكيف يكون الإيمان بالله. وبشجاعة فائقة ظلّت تقاوم بؤر الفساد أينما وجدت في جمعيات أو في مواقع أخرى، وكان تخوض معاركها بنفسها مع أصدقاء ومحبين يشكّلون ثقة عندها. كانت مع الجميع، هادئة متواضعة صلبة المواقف، حادّة الرؤيا، ذكيّة الإشارة.

ومع ذك لم تكن لتسكت عن ضيم، ولا تسوّف في نقد الواقع، فلطالما شهرت سيفها على الفساد في المجتمع والإدارة.

اليوم إذ ترحل الدكتورة عائدة إلى مثواها الأخير، نفتقدها بقوة وحزن، هذا النمط من النساء الكبار الذين يضعون الخير العام فوق كل مقاصد أخرى.

نكبّر بك أيتها الدكتورة المثقفة المنطلقة إلى دنيا الحق، متانة خلقك، وكرم عنصرك، ولطافة معشرك، والعمل لفائدة مجتمعك، ونبتهل إلى الله عزّ وجلّ أن يفسح لك جنات الخلود ويلهمك شريك حياتك الدكتور عصام وبناتك هلا وليلى وديمة، الصبر والسلوان وإتمام لمسيرتك الرائدة.

 * محامٍ وأستاذ جامعي