بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 تموز 2021 12:02ص الدور الوطني والجامع لغبطة البطريرك الراعي

حجم الخط
هو بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للموارنة، الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وهو من رجال الدين المتميّزين، الرائدين بالتبشير بالقيم الحضارية التي تقوم عليها المسيحية، وقد فرض نفسه مرجعاً روحياً يتعدّى حدود الفوارق الدينية، لكونه الرافض للعصبيات الطائفية والداعي إلى الوحدة الوطنية بين المسيحي والمسلم، ولأنه يعي أن الوحدة الوطنية هي سياج الوطن الصغير، لبنان، في مواجهة أعتى التحديات التي تعصف به.

والبطريرك الراعي هو أوّل بطريرك ماروني يزور السعودية، بدعوة رسمية من خادم الحرمين الشريفين، جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز، اعترافاً من أعلى مرجعية إسلامية بدور مميّز لمسيحيي لبنان في إطار السعي إلى تضييق المسافات بين المسلمين والمسيحيين في العالم أجمع. هذه الزيارة التي كان لها رمزية عالية جداً في زمن «صراع الحضارات» القائم للأسف على أساس طائفي على مستوى العالم، وليس الشرق وحده.

وحرصاً من البطريرك الماروني على ضرورة الحفاظ على التعايش الإسلامي-المسيحي في الشرق، أقام احتفالاً في الصرح البطريركي تحت عنوان «مئة سنة على العلاقة التاريخية بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية»، بحضور السفير السعودي الوزير وليد بخاري. وتخلّل الحفل توقيع كتاب «علاقة البطريركية المارونية بالمملكة العربية السعودية» للأباتي أنطوان ضو الأنطوني، وعرض للعموم للمرة الأولى، لوثائق تاريخية ومراسلات بين الطرفين تعود لسنة 1920. كما تخلّله كلمة مميّزة للوزير بخاري، أشار فيها إلى أهمية الدور الوطني والجامع لغبطة البطريرك الكاردينال الراعي، وأهمية علاقة الصداقة القائمة بين المملكة السعودية والبطركية المارونية، مشدّداً على ضرورة مواجهة التحديات التي يعيشها لبنان، لجهة محاولة البعض العبث بعلاقة لبنان الوثيقة وعمقه العربي، وإدخاله في محاور أخرى تتنافى مع عروبته التي أكّدت عليها مقدمة الدستور اللبناني، ومشدّداً أيضاً على مسألة أنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، ولا شرعية لخطابات الفتنة والتقسيم والشرذمة ولا للخطابات التي تقفز فوق هوية لبنان العربي. كما تخلّل الحفل كلمة تاريخية للبطريرك الماروني أشار فيها إلى دور الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود البنّاء بالدفاع عن استقلال لبنان، ودور المملكة برعاية مؤتمر الطائف الذي نتجت عنه وثيقة الوفاق الوطني التي تشكّل امتداداً للميثاق الوطني، مشدّداً على مسألة أنّ المملكة لم تقم كغيرها بالاعتداء على سيادة لبنان وانتهاك استقلاله، واستباحة حدوده وتوريطه في حروب، وتعطيل ديمقراطيته وتجاهل دولته؛ وإنما أيّدته في المحافل العربية والدولية، وقدّمت له المساعدات الاقتصادية والعمرانية، ورعت مصالحاته وأوجدت له الحلول، ووفّرت الإقامة وفرص العمل للّبنانيين.

والبطريرك الراعي يحارب ما يسمّى بخطة لتدمير العالم العربي من أجل مصالح سياسية واقتصادية ولتأجيج النزاع الطائفي بين السنّة والشيعة، ويعتبر أنّ بعض القوى الغربية والشرقية تعمل على إثارة كل هذه النزاعات، وتدمير ما تمكّن المسيحيون من بنائه خلال 1400 عام على صعيد التعايش السلمي مع المسلمين، خصوصاً بعدما التزمت الأسرة الدولية الصمت المطبق حيال ما جرى في العراق لناحية تهجير أكثر من 1,5 مليون مسيحي منها، نتيجة التطرّف والإرهاب.

كما يحرص سيد بكركي على الحفاظ على لبنان الدولة والوطن والرسالة، من خلال دعوته للحياد وللمؤتمر الدولي للبنان، ويتواصل ديبلوماسياً مع كل الجهات الديبلوماسية من أجل وضعهم في تصوّر هذا المؤتمر برعاية الأمم المتحدة، كما يتواصل أيضاً مع القوى السياسية اللبنانية كافة، للدفع قدماً نحو توحيد الصفوف، للوصول إلى حلول ناجعة.

ودور سيد بكركي في تحريك الفاتيكان لحماية لبنان لا لبس فيه، إذ أن الدعوة التي وجهها الكرسي الرسولي الى القادة الروحيين المسيحيين في لبنان، جاءت بناءً على طلب البطريرك الراعي، الذي تناغم معه قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس بمبادراته لإنقاذ لبنان. لا سيما وأنّ البطريرك كان قد نقل الى قداسة البابا أجواء الوضع اللبناني الداخلي بحقيقته، وخطورته، وما ينعكس على مستقبل اللبنانيين، في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية، وما تقوم به الكنائس من مبادرات فاعلة. فالكنيسة المارونية تحظى برعاية مشدّدة من الفاتيكان، ولها دور أساسي في تحريكه نتيجة دورها التاريخي في الشرق والعلاقة العريقة مع الكرسي الرسولي، وهي التي قادت الكنائس الكاثوليكية الى عقد السينودوس من أجل لبنان، وهي التي كانت وراء زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان، وسوف تكون في القريب العاجل وراء زيارة البابا فرنسيس إلى وطننا أيضاً.

واليوم يسعى سيد بكركي جاهداً لوضع برنامج العمل الذي خطّه قداسة الحبر الأعظم في كلمته الموجهة إلى اللبنانيين، موضع التنفيذ، وذلك من خلال تذليله عقبات تأليف الحكومة الجديدة، ووقفه استنزاف لبنان لحساب أجندات خارجية، وإبعاده الوطن عن خطر الزوال والمجاعة والاهتزاز الأمني نتيجة الإحتقان السياسي القائم في البلد؛ حيث اعتبر البطريرك الراعي أنّ كلمة قداسة الحبر الأعظم التي ختم بها الصلاة المسكونية في بازيليك القديس بطرس، تشكّل خريطة الطريق لإخراج لبنان من أزماته، وأنّ مسار حلّ القضيّة اللبنانيّة، يَـمرُّ حتماً بلقاء اللبنانيّين على وحدة دولة لبنان في ظلِّ الديمقراطيّة والتعدديّة واللامركزيّة والحياد الإيجابي الناشط ووحدة القرار الوطنيّ والانتماء العربيِّ وتنفيذ جميع القرارات الدوليّة. وأصبح واضحاً مدى حاجة لبنان في ظلِّ هذا التمزّق والانهيار إلى مساعدة الأشقّاء والأصدقاء عبر مؤتمر دوليٍّ يُخرج لبنان من أزمته المصيريّة، لا سيما بعدما يئست عواصم القرار الغربية والعربية، من قدرة القوى السياسية على تكوين السلطة كنقطة إنطلاق لتحديد مسار العمل الإنقاذي، وبدأت تنظر إلى لبنان كدولة فاشلة.

كما يسعى سيد بكركي لإعطاء دفعة قوية للالتزام بتحفيز العيش المشترك والأخوّة والسلام في الشرق، الذي أصبح واجباً ملحّاً للبشريّة جمعاء ليس على الصعيد الأخلاقي وحسب بل والإنساني أيضاً. ولذلك يسعى البطريرك الراعي لأن تكون العلاقة بين الموارنة والسعوديين بشكل خاص مميّزة، مُمثلاً نموذجاً رائعاً للعلاقات الإسلامية - المسيحية بشكل عام وحافزاً قوياً لتعزيز علاقات الأخوّة والصداقة باستمرار؛ وهو عندما يسعى للحوار ويبحث عن الخير في الآخر وعن السلام، مُمَهّداً الطريق لتعايش جميل ومشرق، لدرجة أن العالم أجمع سيشهد دفعة قوية من إنسانيته الحقيقية الأصيلة، وستحفى العلاقات الإنسانية التي يقيمها بمحطات ثمينة من المواقف الأخوية المسالمة الهامة والضرورية.

نحن واثقون من أن البطريرك المميّز الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، حفظه الله، سيبقى نبراساً مشعّاً للعمل الديني الخالص لوجه الله، وسيبقى علماً كبيراً من أعلام تاريخ لبنان، ونعطيه حقه ونقدّره حق تقدير على عمله الدؤوب في نشر حضارة السلام وحضارة المحبة الأخوية الصادقة. حماك الله لوطننا الحبيب يا صاحب الغبطة، وبوركت على عملك الجبّار الذي تقوم به على جميع الأصعدة، في خدمة أهدافك الدينية والاجتماعية والوطنية. إننا نستعين بك لتمكيننا من استعادة وحدتنا الوطنية في لبنان، ثم إستعادة دورنا العربي الطبيعي، وهو دور يجب أن يكون بنّاءً وخلّاقاً، لا بل رائداً.