بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 تشرين الثاني 2021 09:32ص السلطوية أم الديمقراطية... أيهما أنسب؟

حجم الخط

كلام كثير قيل عن النهضة الأوروبية وعن دور الأدباء والفنانين والفلاسفة فيها. لكن هذا الكلام ينقصه أهم جملة: لقد تطورت أوروبا بسبب انتقالها من عقلية الحساب إلى الفيزياء. فما من شيء يبلور فلسفة ذلك التطور أكثر من إسحق نيوتن. ولا شيء يبلور الصراع بين القديم والحديث وقتها أكثر من معركة جاليليو مع الكنيسة... لماذا؟

لأننا هنا بصدد إحدى طريقتين حكمتا التفكير البشري على مدار تاريخه: الطبيعة كما هي مقابل الطبيعة كما نتخيل أن تكون. العلم مقابل الحلم.
الفيزياء كانت قفزة عميقة في القدرة على تقنين الذكاء البشري. لم يعد معها البشر أذكى، بل صارت الفئة المتميزة منهم قادرة على تحويل طريقة تفكيرها إلى حجة بسيطة، إعجازية، اسمها القانون الفيزيائي. تستطيع أن تتحدى بها.

القانون الفيزيائي ليس بديهياً. لا تستطيع مهما كان ذكاؤك أن تصوغه بمجرد النظر. الشمس تتحرك من المشرق إلى المغرب. بداهة، نراها بأعيننا كل يوم. لكنها لا تعبّر عما يدور حقيقة في الطبيعة. التفاحة تسقط من الشجرة إلى الأرض. بداهة، نلاحظها كل يوم. أما أن نقول إن هناك قانوناً واحداً يحكم انجذاب الأرض والتفاحة إلى بعضهما بعضاً، وانجذاب القمر والأرض إلى بعضهما بعضاً. فليس هذا بداهة. لأن أحداً لم يلاحظ بعينه انجذاب الأرض نحو التفاحة بالقانون نفسه.

من الذكاء الفيزيائي تولّد نوع جديد من الذكاء الاقتصادي، نسميه حالياً الرأسمالية. فتواكب مع انتقالنا من الحساب إلى الفيزياء انتقالنا من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الرأسمالي. مرة أخرى، استطاع عقل بشري أن يكتشف قيمة الطموح والتنافسية والتخصص في العمل. وأن يصوغ قوانين لا تراها العين المجردة لفضاء فيزيائي كبير اسمه «السوق».

ولأن هذا الذكاء معني بملاحظة ما هو موجود بالفعل. كان لا بد له من وجود أفق يتحرك فيه قلة نشطة من التجار وأصحاب الأعمال ليدون ملاحظاته عن نجاحاتهم وإخفاقاتهم دون التقيد بسابق المعرفة، وشائع القيم الأخلاقية والاجتماعية، في عصره، يتقيد فقط بالملاحظة التجريبية، تماماً كما الفيزياء. وتماماً كما يجب أن تكون علاقتنا التعلمية بالطبيعة.

كمية البخار المنبعثة من المحيطات ضئيلة إن قورنت بكمية مائها. الماء العذب الذي نشربه مدين لهذه الجزيئات الضئيلة. لولاها ما كانت الحياة كما نعرفها. المحيطات مدينة لها، لولاها ما كانت دورة العذوبة، ولطغت الملوحة إلى درجة تهدد الحياة فيها.

كل ما سبق قوانين طبيعية. قوانين ذكية قادرة على تحويل الطبقية الحرارية بين شرائح الماء في المحيطات إلى طاقة حركية تفيد الجميع. وقادرة على استيعاب التباين في المكونات الذرية للمادة نفسها، واستغلال هذه القدرات المتباينة.

وهكذا المجتمعات. طبقية بطبيعتها. كل من فيها ماء، لكنه ابن ظروف مختلفة وقدرات مختلفة. فيها قلة نشطة تحمل أفكاراً في البزنس والابتكار والفن والحدادة والكهرباء والتصميم الهندسي والميكانيكي... إلخ. لو قررت الأغلبية من الماء أن تتحدى الطبيعة، وتفرض على الماء جميعاً أن يعيش عيشة أقرانه، ويبقى في نفس موضعه، النتيجة نعرفها. لكننا لا نستفيد من معرفتها في كثير من مجتمعاتنا النامية، التي لا تزال تعيش نمطاً إنتاجياً وأخلاقيا وثقافياً واقتصادياً ينتمي إلى قرون ما قبل التطور الفيزيائي الرأسمالي.

كيف نخلق في السياسة هذا الأفق الحر الموجود في الطبيعة؟ كيف نضمن حركة الطبقة النشطة؟

من الشائع في إجابة «المثقفين» على هذا السؤال أن يعتبروا أن الديمقراطية العددية الحل، هي المرادف للحرية. للأفق الذي تحدثت عنه. بعض جوانب الديمقراطية تمنح بالفعل أفقاً للأفراد، لكنها - في حالة المجتمعات النامية - قد تقضي على جوهر هذا الأفق. وذلك بقضاء الأغلبية الراكدة على الحريات الفردية للقلة النشطة. وأولها الحرية الرأسمالية في التملك ومراكمة الثروة، بوسائل مشروعة. الحرية التي دشنت التغيير في أوروبا. سيقيمونها بعقلية حسابية تنتج قيماً سياسية. العقلية الحسابية ستعتبر أن مراكمة هؤلاء للثروة طرح من ثروة الآخرين. وسيصرخون العدل العدل. هذا قريب من البداهة، بعيد عن الحقيقة.

الحرية الفكرية أيضاً ستنقض عليها الجموع المتمسكة بمعارفها القديمة. من السهل ملاحظة أن أعلى الأصوات صياحاً بالديمقراطية، هي الجماعات المتمسكة بالقديم القامعة لحريات الأفراد. هل هذا صدفة؟

ثم إن مجتمع نيوتن وآدم سميث لم يعرف الديمقراطية العددية. ولو عرفها لربما قضت مبكراً على كل إصلاحاته، وجود سلطة حمت هذه الإصلاحات من رفض الجموع لها كان محورياً في حدوثها.

فهل السلطوية هي الحل؟ لا، وإلا لصار عراق صدام حسين جنة العالم. إناء الأمم ينضح بثقافتها. إن تلاقت في لحظة واحدة حركة العنصر الجيد، ولو كان ضئيلاً، في تلك الثقافة، مع سلطة تحميه من هجمة الجموع الراكدة، فهي اللحظة الفارقة. لحظة التلاحم مع القانون الطبيعي. كلحظة إليزابيث الأولى في إنجلترا. هل كانت سلطوية؟ نعم. لكن عامل النجاح كان اتجاه عزمها.

ستظهر لنا مشكلة أخرى: كل سلطة تعتبر نفسها فارقة. لكن في واقع الأمر لدينا علامات «طبيعية» تنبئنا بـ«طبيعتها». وليس منها تحقيق معجزة بين يوم وليلة. لن يحدث. إنما منها رؤية الكفاءات تنبت في وجودها. إذ لديها من الثقة وحسن العزم ما يجعلها تشجع الإلكترونات النشطة على الحركة: في الاقتصاد، في ريادة الأعمال، في الفن، في الفكر، في العلوم. ومنها ذكاء تشريعاتها. إذ القانون هو حبكة رواية المجتمع، ميكانيكا الموتور فيه. بالنظر إلى هذين المسارين تستطيع أن تحكم على اتجاهها. أما السلطوية التي تفرش نفسها ستاراً على سطح المجتمع، تشفط الأفق عن النظر، وتمنع البخار من التبخر، ولو بحسن نية ورغبة في الحماية، فحظ أفضل المرة القادمة.

المصدر: الشرق الأوسط