الاستراتيجية الأميركية الجديدة ليست بديلاً من استراتيجية العمل العسكري بل هي جزء مكمل، فاللعبة الآن تقتضي استراتيجية العصا والجزرة، والجهد المبذول يفترض ترويض أوروبا وإقحامها في مشروع أميركي التصميم والأهداف والغايات، والقصد الحؤول دون تقدمها بمبادرات منفردة على حساب تراجع التفرد الأميركي، واستثمار جهودها التي سبق أن قامت بها «الشراكة المتوسطية، برشلونة، مفاوضات الشراكة الأوروبية - العربية» فالحاجة الأميركية إلى أوروبا ذيلية وطليعة اقتحامية ومموّل للمشروعات الأميركية ازدادت كثيراً بعد أن أخفقت المحاولات لاستبعادها واستعدائها على وقع الحدث العراقي والفلسطيني.
والجهد الأميركي الجديد، في المنطقة، يحاول الاستثمار بما تحقق من قبل مشروعات الشرق الأوسط الجديد لـ «شيمون بيريس» ومؤتمرات التطبيع، وعقود الشراكة الأميركية - المتوسطية، واستثمار التعهدات الأمنية والوجود العسكري الأميركي في السعي لتطوير دور الدول العربية الهامشية على حساب دول الثقل والمركز، والقصد النهائي واحد بين استراتيجيتي الغزو العسكري والغزو الثقافي والاقتصادي والاجتماعي «الأوسط الكبير»، إلحاق المنطقة وإعادة هيكلتها وإخراج الكيان الصهيوني من مأزقه الوجودي وتحويله إلى مركز الشرق الأوسط الكبير، والقائد فيه أمنياً واقتصادياً وثقافياً.
في مشروع الشرق الأوسط الكبير، استهدافات واضحة، ودول مستهدفة بعينها، سورية ولبنان - إيران - تركيا - مصر والسعودية، على الرغم من اختلاف الأولويات وطرائق العمل، وبيت القصيد «إسرائيل» والوجود الأميركي وتطبيعه، وإقصاء القومية العربية وتدمير أدواتها، وإلغاء النظام الرسمي العربي تمهيداً لإلغاء العروبة ذاتها، من الواقع، ومن النصوص ومن النفوس كما من التعليم والتعاملات، ولا بأس من وأد اللغة العربية، وانتزاع الشعور القومي من العقول والقلوب، كما انتزاع الثقافة وتغيير الوعاء الثقافي والقيمي للأمة العربية وأمم المنطقة.
إن الإدارة الأميركية الحالية انتقلت من مرحلة تقديم الدعم العسكري والسياسي والمالي إلى «إسرائيل» إلى مرحلة الترويج المباشر للأفكار والمعتقدات الصهيونية، ومحاولة فرضها على الآخرين.
وللتدليل على صحة ذلك يكفي هنا الإشارة إلى مشروع الرئيس الأميركي جورج بوش المسمّى «الشرق الأوسط الكبير». هذا المشروع هو في الأساس فكرة صهيونية تم تداولها في مراحل غير متباعدة من القرن الماضي، وتوقف عندها مطوّلا الصهيوني العتيد شيمون بيريس في السنوات العشر الماضية، حتى باتت تنسب إليه.
وهو يرمي بالدرجة الأولى إلى فرض «إسرائيل» بعدوانيتها وأطماعها وسياساتها الفوقية والاستفزازية على المنطقة، وإطلاق يدها فيها لتفعل ما تريد.
والمدهش هنا هو أن الحديث عن الشرق الأوسط الكبير هذا يتوازى مع حديث عن الديمقراطية، وضرورة تعميمها على الطريقة الغربية في المنطقة، بعد تلقين الناس دروسا فيها، وإطلاعهم على ميزاتها التي لا يمكن تقليدها.
في كل الأحوال، وفي العودة إلى تاريخ الشعوب وتجاربها في شرق الأرض وغربها، يبدو واضحا أنه ليس من الصعب فحسب بل من المستحيل فرض أية أفكار على أي شعب لا تنسجم مع تقاليده وتراثه وحضارته وقناعاته الدينية وهذه من المسلمات التي لا جدال حولها، ومن يشكك بذلك فليقدم مثلاً واحداً على صحة مزاعمه.
الشعوب لها تواريخها وجغرافيتها، وبيئاتها، ومفاهيمها المتراكمة على مدى مئات السنين والمترسخة في عقول أبنائها. وهذا ينطبق حتى على المجتمعات الخليطة الحديثة التكوين، إذ تبقى كل مجموعة متمسّكة بجذرها الأساسي، وبما نشأت عليه، ولا يقلل من هذه الحقيقة الظواهر الشكلية التي تحكم بعض تصرفاتها.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فعلماء النفس والمفكرون والسياسيون يجمعون على أن الديمقراطية لا تستورد من الخارج، ولا يمكن إدراجها ضمن هذا المفهوم، لكونها حصيلة تطور مجتمعي لزمان ومكان محددين، ولأنها تصنف حسب ظروف ومتطلبات كل مجتمع على حدة، ولها أولويات أيضاً.
وهذا يعني أن «الشرق الأوسط الكبير» يخالف الطبيعة، ويتعارض مع التاريخ والجغرافيا، ولا سيما إذا ما أخذت في الحسبان الأهداف غير المعلنة الكامنة وراء هذا المخطط، وإذا ما تم تسليط الضوء على حقيقة كون القضية الفلسطينية منذ أربعينات القرن الماضي، وأن لا استقرار حقيقيا لها دون معالجة هذه المشكلة بشكل كامل.
ويمكن الجزم هنا أن «الشرق الأوسط الكبير» يعني من ضمن ما يعنيه طمس القضية الفلسطينية بشكل نهائي، وإلهاء الشعب العربي وشعوب المنطقة بمسائل هامشية وشكلية لا ترقى إلى مستوى الأساسيات. وإن لم يكن الأمر كذلك فلماذا لم يبادر دعاة الشرق أوسطية إلى العمل الجاد وهم يستطيعون من أجل حل هذه القضية قبل المبادرة إلى إعلان مشروعهم؟!
إضافة إلى ذلك كيف يمكن الربط بين الديمقراطية والشرق الأوسط الكبير ما دام دعاة هذا المشروع يضربون بالحديد والنار الديمقراطية العالمية ممثلة بالشرعية الدولية وقراراتها، وما داموا يقدمون الدعم العلني للعدوانية وللقتل الإسرائيليين ولرفض حكام تل أبيب للسلام العادل الشامل الذي حددت أسسه الأمم المتحدة، عبر قرارات مجلس الأمن الدولي؟
ألا يمكن القول: إن احتلال «إسرائيل» للأراضي العربية وجرائم الحرب التي تقترفها في الأراضي المحتلة، وتحديها للمجتمع الدولي بدعم أميركي، وصمة عار للديمقراطية الغربية كلها!