بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تشرين الثاني 2022 12:01ص الصراع الماروني الذي لا ينتهي... هل يُمهد لما هو أسوأ على المسيحيين؟

حجم الخط

يفتح الحديث الخطير اليوم حول إمكانية توتر في الشارع المسيحي أسئلة ذات دلالات حول ذلك الصراع الماروني الذي لا ينتهي بعد أن دفع المسيحيون في شكل عام والموارنة في شكل خاص ثمنه سياسياً وديموغرافياً واقتصادياً.

مناسبة القول هي ما يتنبأ به البعض من عودة الكباش الماروني المتوتر الى الشارع، في استعادة ربما لأحداث كثيرة ماضية. فالشارع المسيحي ما زال يتناسل الصراع الدموي منذ نحو 34 عاماً بين قائد الجيش العماد ميشال عون و"القوات اللبنانية" بزعامة سمير جعجع، أو "حرب الشرقية" التي جاءت على مرحلتين في العامين 1989 و1990.

طبعا لن يكون الكباش على مستوى المدفعية والنار والقتل، لكن المرحلة الحالية مُراد لها أن تشكل فاتحة لموازين قوى على تلك الساحة بين القوتين المسيحيتين الكبريين: "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" وسط فترة الشغور الرئاسي التي ليس في مقدور لبنان تحملها كما في الماضي ناهيك عن المسيحيين المُستنزفين.

والواقع أن الحرب الضروس في أوائل تسعينيات القرن الماضي بين القوتين العظميين للمسيحيين صاغت قدرهما الذي يدفعان ثمنه اليوم تهميشاً وفقداناً للدور المسيحي الذي كان العامل الاهم لتأسيس الكيان اللبناني.

فبعد تلك الحرب اتخذت المرجعية المارونية الدينية الممثلة ببكركي خلال عهد نصر الله صفير ومعها "القوات اللبنانية" وغيرهما من قوى مسيحية، القرار بقبول اتفاق الطائف الذي حاربه عون بشدة وظلّ حتى ساعاته الاخيرة في بعبدا مراهناً على تعديلات فيه كما على حصته السلطوية في جمهورية ما بعد الطائف.

للمفارقة هنا فإن جعجع نفسه كان من أسقط اتفاقاً افضل للمسيحيين قبل الطائف في العام 1986 تمثل في "الاتفاق الثلاثي" بينه زعيم القوات حينها إيلي حبيقة مع زعيمي حركة "أمل" نبيه بري و"الحزب التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط برعاية سورية مباشرة.

شكل إسقاط هذا الاتفاق تراجعاً في الحظوظ المسيحية في صياغة اتفاق يحفظ لها الحدود الدنيا من السلطة بعد أن كان الرئيس الماروني الحاكم بأمره قبل الطائف، قبل ان يضطر المسيحيون الى القبول بما تيسّر لهم في الطائف وسط ظروف دولية وإقليمية مغايرة وكان أن جُرد الرئيس، الذي استمر مسيحياً عُرفاً، من صلاحياته الكبرى.

كان ذلك مثالاً على هيمنة المصلحة السلطوية على تلك المسيحية، فقد حارب جعجع "الإتفاق الثلاثي" بسبب تهميشه فيه ثم قبل بالطائف لرهانه على مستقبل فيه، بعد أن دمرت الحرب المجتمع المسيحي.

ولناحية عون فقد نصّبه رئيس الجمهورية أمين الجميل قبل 15 دقيقة من انتهاء ولايته العام 1988 رئيسا لحكومة عسكرية انتقالية، وكان ذلك في وجه جعجع وظنّاً من الجميل أن لا خوف من عون الذي يفتقد الى الطموح السياسي.. الأمر الذي سرعان ما أثبت الأخير عكسه بشنّه "حرب التحرير" بعدها بأشهر في العام 1989.

في كل الأحوال المُراد هنا القول إن القادة الموارنة كانوا، باقتتالهم الداخلي، أعداء أنفسهم فأودوا بطموحاتهم وفقدوا حظوتهم في الحكم، حتى أن كثيرين يتفقون أن "حرب الشرقية" هي نقطة التحول التي شكلت الضربة القاضية لتلك الطموحات.

على ان الاقتتال الداخلي لم يكن السبب الوحيد لذلك التدمير في مستقبل المسيحيين، بل أيضا الرهانات الخاطئة. فمن ناحية عون هو راهن على حليف إقليمي هو العراق تم تدميره بعد غزوه الكويت، وحليف فرنسي كان أعجز من مواجهة الولايات المتحدة الاميركية التي ناصبها عون العداء وجاهر بتحديها.

ولناحية جعجع فإنه راهن على الدعم الدولي ومن ثم الفاتيكاني للطائف لكنه، وهو الذي تمرد على الرغبة الاميركية السورية العام 1988 في تنصيب مخايل الضاهر رئيسا وساهم في إفشالها، تمرد من جديد على الرغبة السورية في لبنان الذي انطوى تحت الجناح السوري بغض نظر دولي إقليمي كافأ دمشق على موقفها المناصر لتحرير الكويت.. فسقط جعجع بعد أن قرأ بقصور نظر طبيعة الدور السوري الجديد حينها في لبنان.

وبعد أن عانى المسيحيون الأمرّين في المهجر والسجن، وعلى أثر فترة وجيزة من المصالحة العام 2005، عاد الانقسام التياري القوات وذهب كل منهما في رهاناته في اتجاه مناقض للآخر. عون في تحالفه الصامد منذ العام 2006 مع "حزب الله، وجعجع في حلفه السعودي الأميركي.. ولم تفعل مصالحة معراب العام 2016 التي عبّدت طريق الرئاسة أمام عون في تعزيز تسوية مستحيلة بين القائدين المارونيين اللذين سرعان ما استعادا صراعهما الأبديّ على السلطة.

واليوم يبدو التاريخ مشابها لسابقا، فمشروع السلطة يثبت أن الصراع الماروني لن ينتهي ولكن هذه المرة في ظل أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية يعيشها الكيان منذ نشوئه والموارنة يعلمون ذلك قبل غيرهم.

سيكون الحكم والرئاسة مشروع صراع شارعي جديد قد يودي بالطموحات المارونية برمّتها. ويخشى بعض المسيحيين أن ييكشل ذلك فاتحة انقلاب جديد في موازين القوى يتمظهر سياسياً ودستورياً انطلاقاً من المسرح المسيحي وصولاً الى شوارع أخرى، وقد لا يكون بعيدا عن مشهد ما تمخض عن الحرب الأهلية لجهة مفاعليه السياسية التي ضربت المشروع المسيحي في الحكم لينتقل من "مارونية سياسية" حاكمة يوما إلى بيدق في يد مشاريع أخرى. فاليوم لا مرجعية خارجية تحمي المسيحيين، وثمة أسئلة حول ما إذا كان ثمة اهتمام اصلاً بمسيحيي الشرق وسط رياح دولية متغيرة.

وبعد أن ذهب المسيحيون إلى الطائف نتيجة تناحرهم الدموي محصلين الحد الادنى من الحقوق بعد أن تصاغرت مع الأيام، قد يذهبون اليوم إلى ما هو أسوأ لهم في حال تقاتلهم من جديد مع ما قد يستدعيه ذلك من تعديل للنظام السياسي الذي ما زال، على رغم كل ما شيء، يحمي رمزيتهم السياسية ومصالحهم الإقتصادية ويحدُّ قدر الإمكان من هجرتهم الكبرى .