بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 أيار 2022 12:04ص الصراعات والتنافس على الزعامة

حجم الخط
الأندلس حلم عربي ساحر، دام ردحاً طويلاً من الزمن، وتجسد في أمة ذات تراث مجید، ودولة ذات نظام فريد، ومجتمع راق، مترف، مقاتل، تقی، تمازجت فيه الفروسية العربية، مع الشجاعة البربرية، مع التراث القوطي الإسباني، وظهرت ملامحه الفريدة في طرائق عيشه. كما ظهرت في مواجهاته العنيفة العنيدة، وفي صراعاته القبلية والسياسية.
ولقد أتى على الأندلس زمان كانت لها غير دولة ورجال، وممالك وأمارات ومدن وصناعات وأداب وقيم وعادات، وكانت بسائطها وحصونها تحفل بالفرسان الشجعان، وبالمقاتلين البواسل، وكانت حواضرها وبلاطاتها، تزخر بالشاعرات والشعراء، والأديبات والأدباء، وكانت مساجدها ومدارسها تغص بالعلماء والفقهاء المتفوقين في سائر العلوم والفنون.
تاریخ مختصر للأندلس، وتطور دولها من الفتح إلى السقوط، تبرزه إلمامة وافية بحاضرة الأندلس «قرطبة» وأحوالها وأوضاعها وإطلالة كافية على منازل الملوك في «الزهراء»، وفي مملكة غرناطة وتنقل صورة تفصيلية عنه المعركة الأخيرة، التي خاضتها هذه المدينة الصامدة في وجه جحافل الإسبان المتحدة، تحت لواءي الملكين الكاثوليكيين.
ففي غرناطة كان الصراع على السلطة، يدور بأقسى صوره وأشكاله، في الوقت الذي تحدق الأخطار بالمملكة المحتضرة، وفي بلادنا اليوم يحتدم الصراع ذاته، في الوقت الذي يثلم فيه شرف الأمة كل يوم، ويهدد مصيرها كل ساعة.
وفي غرناطة كان البعض لا يرى في عقد الأحلاف مع العدو خیرً ولا غضاضة، فيما كانت تلك المخالفات، المسامير الأولى التي يدقها العدو في نعش الأمة وكيانها. وفي أوطاننا العربية اليوم يمثل البعض الدور نفسه، وينضهون بذات الهمة ولا يلتفتون إلى موعظة التاريخ الصارخة من خلال عبر غرناطة وغير غرناطة. وفي غرناطة كان للإستسلامیین دورهم القبيح، ومسعاهم المكشوف، الذي أسهم في إنماء روح اليأس وإشاعة القنوط الناس، وشجع العدو الماكر على اختراق جدار الأمة المنيع، ونسف وحدتها الداخلية في ساحتنا العربية والإسلامية يشاهد أمثال هؤلاء الذين يرفعون شعار الإستسلام، ومصانعة العدو، تحت ستار المرونة والحكمة السياسية، الذين يلجأون دائماً إلى الحل السهل باعتباره أقرب منالاً، وأقل تكليفاً وأعباء .. ولا يدرون أن التاريخ يدل على أن خطل رأيهم، وخيبة سعيهم أكثر من أن تحصى.. وأولها دلیل غرناطة.
وفي غرناطة إلى جانب كل ذلك، أبطال فرسان وقواد شجعان، سقوا بدمائهم أرضها الطيبة.. ولم يعبأوا بالموت وخاضوا المعركة الخاسرة.. ولكنهم ربحوا أنفسهم والأحدوثة العطرة التي اقترنت بها أسماؤهم مدى الدهر.
والآن تعال معنا قارئي العزيز في رحلة عبر التاريخ، نرافق فيها المملكة الإسلامية الأخيرة في الأندلس مملكة غرناطة، في سنواتها الأخيرة، عسى أن تكون لنا في هذه الرحلة عبرة ننتفع بها في حاضرنا.. ونتعظ بها المستقبلنا.
إن المسلمين دخلوا الأندلس سنة 93 للهجرة/710م. وواجهوا في ذات السنة تقريباً وعلى طول العهود التي الحكم تعاقبت عليهم، حملة شرسة وعنيدة، إسمها «حملة الاسترداد». وفي هذا يظهر للقارىء أن مدن الثغور في الشمال الشرقي وفي الشمال الغربي من شبه القارة الأيبيرية كانت أسرع المدن سقوطاً تحت ضربات حملة الاسترداد، فبعضها لم يستقر فيه المسلمون أبداً، بل غزوه ووطئوه وغادروه، وبعضها الآخر لم يدم استقرارهم فيه أكثر من عقدين أو ثلاثة.. وبعضها الثالث، استبسل وناضل وقاتل حتى الرمق الأخير... واضطر للاستسلام.
وهذا يدلنا أن الوجود الاسلامي تمتع بالاستقرار خلال فترات محددة في عهد بعض الخلفاء الأشداء ذوي الهمة العالية والحركة الدائمة، ومع ذلك ليس في وسع المؤرخ أن يقول: إن الوجود الإسلامي في إسبانيا لم يكن قلقاً، ولم يكن معرضاً دائماً للخطر من مصدرين: إما الاضطراب الداخلي - أو النزاع الإقليمي أو الحروب القبلية والعرقية. وإما الهجمات المتوالية لجهتي الشرق والغرب، ناهيك عن الخطر الثالث الذي عاناه الوجود الإسلامي كثيرة في مرحلة معينة ألا وهو خطر الطامعين الأفارقة. ومن العناصر التي أسهمت في التعجيل بالقضاء على الوجود الإسلامي في الأندلس، الوحدة التي قامت بين مملكتين كبيرتين معاديتين، هما أراغون وقشتالة. ففي الرابع الأخير من القرن الخامس عشر قبلت إیزابیلا، شقيقة هنري ملك قشتالة، بعد إمعان النظر، أن تستجيب إلى دعوة إبن عمها فردیناند الأراغوني، المتقدم لخطبتها. ومن العجيب أن من شروط الزواج أن يتعهد فردیناند بمتابعة الحرب ضد المسلمين.
وهكذا عقد الزواج في بلد الوليد، وفي الوقت الذي جلس فيه فرديناند وإيزابيلا على عرش إسبانيا القوية الموحدة، كانت غرناطة تدخل بعد سلسلة من الحروب الطويلة في مرحلة النزع الأخير، وكان يجلس على عرشها وقتئذٍ السلطان أبو الحسن علي إبن السلطان سعد المستعين بالله.
عندما توفي الملك الرابع والعشرون أبو الحسن علي بن سعد المستعين بالله، خلفه عدة أولاد أبرزهم الأكبر أبو الحسن علي، (وهو الملك الخامس والعشرون) ويوسف أبو الحجاج، ومحمد أبو عبد الله، وتسلم الأكبر مسؤولية الحكم في حياة أبيه وقبل وفاته بسنة، ومن سخريات القدر أنه قضى ردحاً طويلاً من عمره في المملكة بعد وفاة أبيه وهو يقاتل أخويه المذكورين، فأخوه أبو عبد الله الملقب «الزغل» استقل «بمالقة»، وأحوازها، وكان يضارعه في الشجاعة والجرأة وحب النضال، واستعان لسوء تدبيره وخيبته بملك قشتالة، لينصره على أخيه الملك وقائده محمد الفرسطوطي، حينما انقلب عليه هو وجنده وقواده في مالقة، ونصبوا الزغل ملكاً عليهم، أما أخوه الثاني يوسف.. فلم يطل عمره وتوفي.. وهكذا وقع السيف بين الأخوين وانقسمت المملكة، وكان وزيره آنذاك ووزیر أبيه من قبل القائد القاسم بن رضوان بینغش، فهادن أخاه وطلب الهدنة من الملكين الكاثوليكيين (فردیناند وإیزابیلا) فوافقا على شرط الطاعة وتأدية الجزية.. فرفض أبو الحسن وأنذر سفير الملكين الذي جاء يبلغه ذلك بالحرب، وتوجه بالفعل على رأس قواته الى أحواز رندة في كانون الأول (ديسمبر) 1481 واستولى على «حصن الصخرة» هناك. وكان لهذا الظفر الوقت فعل السحر في نفوس أهالي غرناطة.
وما كاد أبو الحسن يعود الى قاعدته في غرناطة حتى نشبت الثورة ونادي الناس بإبنه محمد (أبو عبد الله) – آخر ملوك غرناطة - ملكاً عليها، فهرب أبو الحسن الى مالقة حيث يحكم أخوه الذي كان يحاربه من قبل محمد بن سعد الزغل (ومعناها الشجاع الباسل) وهكذا كانت غرناطة تحت طاعة أبي عبد الله، وهو فتى في الخامسة والعشرين من عمره، فيما بقيت مالقة وعرب المملكة على طاعة أبيه. وهنا لملم فردیناند جراحه في «لوشة» وجمع جيوشه وقصد مالقة، وهي من أعظم الثقور الإسلامية، وكان تواقاً للسيطرة عليها، بقصد تطویق غرناطة، ولكنه هزم أمام «الزغل» شر هزيمة في آذار (مارس) 1483م.
واستهوى هذا النصر ملك غرناطة الشاب.. وأحب أن يقلد عمه «الزغل» وأن يغزو أراضي قشتالة.. فقصد بجيشه أطراف قرطبة ذاتها.. وسجل انتصارات هامة وحاز غنائم وفيرة واجتاح الحصون والضياع... ولكن الإسبان أدركوه في طريق العودة... فنشبت بينه وبينهم معركة هائلة قرب قلعة يقال لها «اللسانة»، فقتل من المسلمين كثير من القادة والفرسان، وأسر الملك الشاب أبو عبد الله محمد نفسه. عرفه الجند القشتاليون وحمل إلى قرطبة واحتشد الناس لرؤيته، وعومل بإكرام وحفاوة. وعاد المسلمون الى غرناطة بغیر ملكهم، فارتاع الناس، ثم استقر الرأي على استدعاء والده المعزول والمقيم مع أخيه «الزغل» في «مالقة».
ولكنه كان قد شاخ وعجز وفقد بصره.. فنزل عن العرش الأخيه اللدود «الزغل». وعلى الرغم من المساعي الكثيرة التي بذلت لافتداء الملك من أبيه فقد تريث فردیناند بالإفراج عنه. وأخيراً وقعت اتفاقية بين الطرفين يتعهد فيها أبو عبد الله (الملك) بدفع جزية 13000 ذهبية سنوية والإفراج الفوري عن 1400 أسير نصراني وأن يقدم ولده الأكبر وعدداً من أولاد الأمراء رهائن لضمان تنفيذ الإقامة.