بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تشرين الثاني 2022 12:02ص الطائف في ولادته الثانية: وقف مشروع «المؤتمر التأسيسي» والبحث في كيفية تطبيق وثيقة الوفاق الوطني

هل وعى المسيحيون أهمية الطائف وخطورة انزلاقهم إلى حلف الأقليات وأهمية التعاون مع محيطهم العربي؟

حجم الخط
في العام 1989 إستلم الملك فهد رحمه الله لبنان مدمَّراً بعد إجلاء حكومة ميشال عون غير الشرعية عن قصر بعبدا لتبدأ مرحلة إرساء السلم وإنهاء الحرب الأهلية ووضع دستور يأخذ بعين الاعتبار ضرورة إسكات المدافع وأهمية إعادة تشكيل السلطة وتوزيع مواقع الدولة وفق معادلات متوازنة وعادلة تضمن الاستقرار وعدم العودة لاستخدام السلاح لحلّ الخلافات حول الحكم والنظام السياسي وكيفية تطبيقه بشكل عادل، وكان نتاج تلك المرحلة ولادة اتفاق الطائف ودستوره.
تعرّض «الطائف» ودستوره لمسارٍ طويل من الانتهاكات والاستباحة على يد النظام السوري بعد انفراده باحتلال لبنان عسكرياً وتماديه في تعطيل مفاعيل بناء الدولة بالشراكة مع حلفائه المحليين مستغلين غياب العرب وانشغالهم بأزمات أكبر فرضت حضورها عليهم مما جعل لبنان لقمة سهلة في فم حافظ ومن بعده بشار الأسد، فتحوّل ساحة نفوذ وصراع وتبادل رسائل مع القوى الدولية والإقليمية، واستشرى خطر السلاح غير الشرعي حتى وصل اليوم إلى ما يقارب ابتلاع الدولة.
الولادة الثانية للطائف
في العام 2022 يضع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود جهوده مجدّداً لإنقاذ لبنان من انحرافات تطبيق اتفاق الطائف، التي بلغت ذروتها في السنوات الستّ لرئاسة ميشال عون، وكأنّها من مفارقات القدر أن يرتبط اسم هذا الرجل بالكوارث الكبرى النازلة على لبنان، إن لم تكن حروباً فهي نوازل كارثية، حتى لم تبقَ جائحة إلاّ ونال لبنان منها نصيب، ليأتي تدخل الملك سلمان عبر سفيره صاحب الحضور والتأثير الدبلوماسي والسياسي والإنساني وليد بن عبد الله بخاري، من أجل التصدّي لمحاولات فرض عقد اجتماعي جديد أو مؤتمر تأسيسي يلغي دستور الطائف ويؤسِّس للمثالثة أو المرابعة، ويرسي سيطرة «حزب الله» ومن يتحالف معه على السلطة في لبنان لعقود طويلة مقبلة.
منتدى الطائف: الأهداف تحقّقت
حقّق منتدى الطائف رسالته التي قام لأجلها، وهي تأكيد ثبات المملكة العربية السعودية في حماية لبنان من محاولات نسف دستوره وتوازناته وشراكته الوطنية، وإحباط المساعي لبعض الجهات الدولية التي تعاونت مع إيران للانقلاب على الطائف، ووضعت الموقف الفرنسي أمام الاختبار العلني بعد ما كشفه السفير بخاري عن مضمون محادثاته مع القادة الفرنسيين وتأكيدهم بعدم وجود نوايا لفرض عقد اجتماعي جديد.
حضر في المنتدى أهل الطائف، وكان لافتاً أن يشارك الوزير الأسبق سليمان فرنجية ليؤكد أنّه ملتزم بهذا الاتفاق، سواء كان في رئاسة الجمهورية أم في الحياة السياسية، كما حضر النائب السابق فيصل كرامي ووفد من تيار الكرامة، وشخصيات محسوبة في فلك الممانعة، لكنّها تضع نفسها في عباءة الطائف، وهذا إنجاز يتكامل مع مشاركة الأطراف والشخصيات السيادية: القوات اللبنانية، حزب الكتائب، النائب والمرشح الرئاسي ميشال معوض.
كما جاءت مشاركة سماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان والمطران بولس مطر لتؤكد مسار الشراكة الإسلامية - المسيحية، في تكريس لنضال المفتي الشهيد حسن خالد والبطريرك الراحل نصرالله صفير.
موقع وتضحيات أهل الطائف: المفتي الشهيد حسن خالد نموذجاً
أثبتت الوقائع التاريخية أنّ النظامين السوري والإيراني كانا ضدّ اتفاق الطائف في العمق، لأنّ الاغتيالات السياسية طالت أهل الطائف. فالرئيس الشهيد رينيه معوض كان ابن الطائف ولمنع تطبيقه تعرّض للاغتيال، كما سبق اغتيال الراحل بشير الجميل.
والمفتي الشهيد حسن خالد اغتيل وكانت دماؤه الطاهرة سطور إنقاذ في اتفاق الطائف، وهو الذي كان يدعم الشارع المسيحي لتحرير واستقلال لبنان، وهذا ما لاقى ترجمته من خلال المناصفة في الدستور، رغم أن الجانب المسيحي كان قد خسر الحرب، فكانت معادلة الطائف: لا غالب ولا مغلوب.
البطريركية المارونية: المؤتمر الدولي لتطبيق الطائف
من الضروري في هذه المرحلة أن يقوم غبطة البطريرك الراعي بتحديد وجهة المؤتمر الدولي الذي يدعو إليه، لأنّ بقاء الطرح بهذا التعميم يمكن أن يتماهى مع فكرة المؤتمر التأسيسي، لذلك ينبغي أن تكون الدعوة للمجتمع الدولي بالتحرّك لإلزام الجميع باستكمال وحسن تطبيق اتفاق الطائف، فيصبح العنوان سيادياً إصلاحياً لأنّه يشمل فرض سيادة الدولة بسلاحها الشرعي، ويستكمل الإصلاحات السياسية، وأبرزها إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ، ويعالج إشكالية غياب العدالة في التنمية من خلال اللامركزية الإدارية الموسعة.
مقاصد الدستور وروحه وإشكالية الصلاحيات
أشار السفير بخاري إلى أهمية روح النص في تطبيق اتفاق الطائف. وعندما قتلت قوى الأمر الواقع روح النص، أصبح جامداً وغير صالح لانبثاق التطبيقات الإيجابية، لأنّ العدالة في ضمير القاضي وليست في نص القانون. وهذا ما يحصل بشأن تطبيق المواد الدستورية المتعلقة بصلاحيات تشكيل الحكومة واتخاذ القرار في مجلس الوزراء وصلاحيات الرؤساء والوزراء.. فعندما تكون النوايا طيبة، تسير الخطوات الدستورية في مجراها الطبيعي، وإذا خبثت المقاصد، وقع البلد في أفخاخ التعطيل.
هذا يعني أنّ أفضل الدساتير تسقط عند سوء النوايا وإساءة استخدام السلطة للطغيان على الشركاء أو للاستئثار بالمنافع والمواقع. وهذا ما شهده لبنان على مدى عقود من استلاب الطائف ميزاته، من خلال محطات الإكراه السياسي، كما حصل في اتفاق الدوحة واختراع هرطقات دستورية مثل حصة رئيس الجمهورية المزعومة بالحكومة، فيتحول من حَكَمٍ إلى شريك مضارِب في الصراع السياسي، مستخدما حصانته الدستورية لتغليب فئة على أخرى، ويعمل بحصانته وحصته الحكومية على إفشال رئيس الحكومة، بمشاغبات الوزراء المحسوبين عليه، من دون أن يكون هو نفسه معرَّضاً للمساءلة، رغم انغماسه في كلّ أعمال السلطة التنفيذية، التي يمكن لمجلس النواب إسقاطها ساعة توافر أغلبية نيابية تقترع لهذه الغاية.
الدور التعطيلي للثنائي الشيعي
إذا دلّت تجربة ميشال عون في الحكم خلال السنوات الست الماضية، فإنّه يدلّ على الدور التعطيلي لـ«حزب الله» في تطبيق اتفاق الطائف، وفي تسيير شؤون الدولة، بينما تراوح حركة أمل بين برزخ الطائف والانجرار في لحظات الاصطفاف المذهبي إلى خيارات الحزب..
تواصل التعطيل والابتزاز من خلال البلطجة السياسية التي مارسها «حزب الله» واستغلال وجود الرئيس عون في رئاسة الجمهورية لضرب الدولة وتفكيك مؤسّساتها، بينما كان موقع الرئيس نبيه بري تمسّكاً بالطائف قدر الإمكان، وكان له حضور في منتدى الطائف عبر ممثل عن كتلته النيابية كما أعلن شخصياً بالإضافة إلى تكليف النائب كريم كبارة بتمثيله في المنتدى.
كما كان مستغرباً امتناع السيد علي فضل الله عن المشاركة رغم توجيه الدعوة إليه، وهذه محطة سلبية للسيد علي في سياق مقاربة المسائل الوطنية، بينما حضر الوزير الأسبق إبراهيم شمس الدين والشيخ عباس الجوهري.
عون بعد الرئاسة:
هل يغيّر المعادلة?
بعد تجربة ميشال عون في الحكم أصبح واضحاً لدى المسيحيين أنّ مزاعم سلب اتفاق الطائف لصلاحيات رئاسة الجمهورية ليست سوى دعاية سياسية لشدّ العصب الطائفي، وأنّ الرئيس باستطاعته من خلال استخدام صلاحياته أن يمسك الكثير من مفاصل التأثير في القرار والسلطة.
كما يُتوقّع أن تأخذ التطورات منحىً خلافياً بين الرئيس السابق ميشال عون و«حزب الله» حول إشكالية نسف الطائف والانتقال إلى مؤتمر تأسيسي يبدو بشكل لا يقبل الشكّ أنّه سيأتي على حساب المسيحيين وسيسلبهم مواقع احتفظوا بها منذ نشأة لبنان، وللمفارقة أنّ ما خسروه من مواقع، لم يأخذه منهم أهل السنة، بل إنّ الثنائي الشيعي تكافل وتضامن للاستيلاء على مواقع وزارية وأمنية وإدارية إلى غير رجعة.
كيف يمكن تفسير الحضور العوني الكبير في منتدى الطائف وقد شارك وفد نيابي وسياسي رفيع المستوى في هذه المناسبة، رغم وضوح ملابساتها السياسية ومقدماتها وعنوانها ورسائلها إلى الجميع في الداخل والخارج، وأهمّ ما في هذه الرسائل الحفاظ على دستور الطائف والعمل على استكمال تطبيقه، ورفض المؤتمر التأسيسي بكل أبعاده.
عون قبل التسوية وبعدها
حكم عون السنوات الستّ وفق التسوية التي جاءت به رئيساً، وقضت بأن يحكم جبران باسيل وأن يكون هو الواجهة.
اليوم بعد الخروج من السلطة، إنكشف جبران، بات بحاجة إلى الاستظلال بـ«الجبل» ميشال عون، لأنّه بدونه فاقد للشرعية وللوزن السياسي، بينما كان «حزب الله» يستثمر في هذه الحالة لتحقيق أهدافه الاستراتيجية، على قاعدة أن يغطي الفساد مقابل تغطية السلاح غير الشرعي.
تحرّر ميشال عون من التسوية وعاد إلى وزنه الأساس في الشارع المسيحي ليعود جبران أيضاً إلى حجمه المتصاغر في السياسة، وهو لا يستطيع الاستعانة بـ«حزب الله» مباشرة، لأنّها ستكون نهايته السياسية، رغم كلّ الجهود التي بُذلت لتطبيع الشارع المسيحي مع حالة الحزب.
لن يكون غريباً أن يتحرّك ميشال عون نحو إمساك الأمور بيديه من جديد، فيستعيد ترؤس التكتل النيابي، ويبدأ بدراسة المصالح في ضوء التطورات الدولية والإقليمية، خاصة بعد انتهاء مفاعيل سلاح «حزب الله» باتفاقية ترسيم الحدود مع «إسرائيل»، وعندها سيتجه إلى أن «يحكم» باسمه ولن يسمح لجبران أن يضعه تحت الإقامة الجبرية وأن يمنعه من التصريح والقرار.
في المقابل، سيسعى جبران باسيل إلى تحويل عمّه إلى «مرجعية صامتة» لا يظهر مباشرة أمام الرأي العام، ويتولى هو النطق باسمه ويزيد عزلته مع الأيام، ليضمن غطاءه ويحقِّق حضوره الشخصي، خاصة في استحقاق رئاسة الجمهورية.
بعد تجربة عون هل استفاق المسيحيون على أهمية الطائف؟
هل استفاق المسيحيون على أهمية تطبيق الطائف، خاصة أنّ أكثر من حابوه كانوا في مقدمة الحضور، وأنّ الرئيس عون قبل مغادرته القصر الجمهوري أعلن أنّه مع اتفاق الطائف؟
هل يرى المسيحيون أن البابا فرنسيس يطوف في دول الخليج من الإمارات حيث وقّع وثيقة الأخوّة الإنسانية مع شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب، ثم العراق وها هو اليوم في البحرين، بينما لم يفكّر حتى بزيارة إيران؟
هل اتضحت الرؤية لدى مسيحيي لبنان والمنطقة العربية أنّ الأغلبية السنّية هي التي تحتضنهم حضارياً وتؤمن بالمساواة معهم، كما أشار المطران بولس مطر إلى وثيقة المدينة التي وقّعها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب؟
وهل وعى المسيحيون حجم المخاطر التي يهدِّدهم بها تحالف الأقليات والدول المحكومة من هذا التحالف تغرق في الإفقار والإرهاب والخراب، بينما ترفل دول الخليج بأغلبيتها السنّية وتنوّعها المذهبي، بنعمة الأمان والاستقرار والازدهار، حتى باتت مستويات المعيشة فيها تنافس كبريات اقتصادات العالم.. وكيف كان لبنان برفاهه وازدهاره وكيف تردّى اليوم بعد حكم تحالف الأقليات فيه وتورّط المسيحيين في إغراق بلدهم في هذا الجهنّم.
يدرك اللبنانيون أنّه لا خلاص لهم إلّا بالعودة إلى العمق العربي والمدى الدولي ورحابة الشراكة الإسلامية - المسيحية، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه الخطوات والقرارات، فالخيار الآخر جهنم وبئس المصير.