بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 أيلول 2020 07:22ص العلاقات اللبنانية - الفرنسية خلال 100 عام (1/2) المفوضون العسكريون زرعوا بذور النظام الطائفي ومارسوا التمييز!

خلال احتفالية إعلان دولة لبنان الكبير خلال احتفالية إعلان دولة لبنان الكبير
حجم الخط
العلاقات اللبنانية - الفرنسية خلال قرن (1920 - 2020)

أولاً- العلاقات في ظل الانتداب:

احتل البريطانيون والفرنسيون بلاد الشام، التي كانت جزءاً من الدولة  العثمانية الإسلامية، عام 1918، وقسموها  إلى أربع مناطق نفوذ، استناداً إلى اتفاق سايكس - بيكو الذي وضعوه مع روسيا خلال الحرب العالمية  الأولى (عام 1916)، وادخلوا عليه بعد الحرب تعديلات أساسية في شكله ومحتواه، وجعلوا من كل منطقة  كياناً سياسياً مستقلاً، وحكموها باسم نظام جديد اخترعوه، عُرف باسم نظام الانتداب.

كان نظام الانتداب هذا،  نظاماً غريباً «عجيباً في حقل القانون الدولي»  على حدّ تعبير الرئيس الأسبق بشارة خليل الخوري. وقد أقره مجلس عصبة الأمم في 24 تموز عام 1922، ووضعه موضع التنفيذ في 29 أيلول عام 1923، وسمح لفرنسا بالانتداب على سوريا ولبنان، ولبريطانيا بالانتداب على الأردن وفلسطين والعراق.

والحقيقة أن نظام الانتداب كان صورة ملطّفة عن الاحتلال، وكانت فرنسا تمارس السيادة الفعلية على لبنان وسوريا، وفقاً لمقتضيات سياستها الخاصة، فهي التي كانت تحدد وجود  الدول وعددها، كما كانت الترتيبات القانونية التي طبقت في كل دولة من هذه الدول تستمد مبادئها وقواعدها من السلطة التشريعية النوطة بالدولة المنتدبة. وكان ذلك يتجلى على صور أحكام وقرارات يتخذها المفوض السامي للجمهورية الفرنسية. وكان الانتداب يملك حرية التصرف في إنشاء مختلف أنواع المؤسسات، وفي مختلف التدابير الإدارية، بكلمة واحدة، كانت الدولة اللبنانية من صنع الانتداب.

ولما وصل الجنرال هنري غورو،  الذي عيّنته الحكومة الفرنسية مفوضاً سامياً على بلاد المشرق - (أطلقت فرنسا مصطلح بلاد المشرق على دول:سوريا ولبنان الكبير والعلويين وجبل الدروز) - خلفاً لفرنسوا جورج بيكو» إلى بيروت في 21 تشرين الثاني عام 1919، أصدر في شهر آب من عام 1920 أربع قرارات أنشأ بموجبها دولة لبنان الكبير ورسم لها حدودها.

ولما تسلم الجنرال ويغان المفوضية الفرنسية خلفاً للجنرال غورو، ووصل إلى بيرت عاما 1923،  حكم البلاد بحزم واستئثار كأنه والٍ روماني على حدّ تعبير  يوسف سالم، وعين الجنرال الفرنسي فاندبرغ حاكماً على دولة لبنان الكبير، يعاونه مجلس من المديرين اللبنانيين الذين كان إلى جانبهم مستشارون فرنسيون، يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، ويبتّون بالأمور ويحكمون حكم السلاطين (يوسف سالم، 50 سنة مع النّاس، ص42-43).

أما الجنرال موريس ساراي الذي خلف الجنرال ويغان في المفوضية الفرنسية، ووصل إلى بيروت في الثاني من  كانون الثاني عام 1925، كان اشتراكي النزعة، قاسياً، مستبداً، يكره رجال الدين، ويتعامل مع الأحداث بعنف وشدة.

وعندما اندلعت الثورة السورية الكبرى في جبل الدروز بقيادة السلطان باشا الأطرش، وامتدت إلى دمشق وجنوب لبنان، استخدم ساراي لقمعها جميع وسائل القوة، فقصف العاصمة السورية بالطيران ومدافع الدبابات، وأنزل بأحيائها الدمار والخراب، وقتل عدداً كبيراً من أهلها...

ونظراً للإحتجاجات الشاملة التي أعرب عنها الرأي العام الإسلامي والعالمي، استدعت الحكومة  الفرنسية (الاشتراكية) برئاسة لمسيو هريو الجنرال ساراي، إلى فرنسا، وعينت مكانه، في 6 تشرين  الثاني من عام 1925، عضو مجلس  الشيوخ الفرنسي، ورئيس تحرير جريدة  «لوماتان» (Lematin) السيّد  هنري دوجوفنيل (M.Henride Jouvenel).

إن سياسة الإستبداد  التي اعتمدها المفوضون العسكريون في لبنان وسوريا، والتي استندوا فيها إلى الاحكام العرفية وإلى اهمال المبادئ الاساسية لحقوق الإنسان، لم تتغير كثيراً  حينما أمسى المفوضون الساميون مدنيين، إذ ظل هؤلاء المفوضون يتمتعون بصلاحيات مطلقة على الرغم من وضع دستور للبنان في أيار عام 1926.

ففي عهد هؤلاء تحوّلت المفوضية العليا في بيروت الى دولة قائمة بنفسها، لها دوائرها وموظفوها وميزانيتها، وتعالج جميع المسائل السياسية والإدارية والاقتصادية والمالية... وتتدخل في كل امرٍ سواء أكان من اختصاصها، أو من اختصاص الموظفين اللبنانيين، في العاصمة بيروت أو في مراكز المحافظات والاقضية.

ولمعالجة ذيول السياسة الخرقاء للقادة العسكريين، بادر دو جوفنيل إلى وضع دستور للبلاد، استمد معظم مواده من الدستور الفرنسي للجمهورية الثالثة، وكان هذا الدستور، الذي أعلن المفوض السامي ولادته في 23 أيّار من عام 1926، يتألف من 102 مادة، وكانت المواد الخمس من  90 إلى 94 تُكرس الانتداب على لبنان، وتضع المادة 102 هذا الدستور في عهدة الجمهورية الفرنسية بصفتها دولة منتدبة من لدن عصبة الأمم.

كما تُكرس هذا الانتداب أيضاً في القانون الذي انتزعه المفوض السامي من مجلس النواب في 21 أيّار، والذي كان يحفظ لفرنسا كثيراً من الصلاحيات، ويضع مصالح الأمن العام بتصرف الدولة المنتدبة، ويجعل سريان المرسوم المتعلق بحل مجلس النواب، والذي نصت عليه المادة 55 من الدستور، مشروطاً بموافقة المفوض السامي، ويعطي لهذا المفوض صلاحية إلغاء كل تشريع يتم بموجب الدستور إذا رأى  انه مخالف لنص صك الانتداب وروحه.

وبناءً على ما تقدّم فإن نظام الانتداب، الذي كان قراراً دولياً مفروضاً على لبنان في مؤتمر سان ريمو في إيطاليا، أصبح داخلاً في صلب الدستور وتعترف به القوانين التي يسنّها مجلس النواب اللبناني.

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الفرنسيين لم يطبقوا هذا الدستور، طوال فترة  انتدابهم على لبنان التي بلغت 23 سنة، سوى تسع سنوات فقط، إذ كان تعليق الدستور يتم من قبل المفوض السامي بطريقة غير قانونية، ولأسباب عنصرية طائفية. فعلى سبيل لا الحصر، فإن المفوض السامي بونسو علق العمل بالدستور في 9 أيّار 1932، وحل مجلس النواب واقال الحكومة، لكي يمنع الشيخ محمّد الجسر، الذي كان رئيسا لمجلس النواب حينذاك، ومسلماً سنياً، من الوصول إلى سدة الرئاسة الأولى.

هذه السياسة الطائفية والعنصرية مارسها الانتداب الفرنسي منذ عهده الأوّل، فاللجنة الإدارية التي ألفها الجنرال غورو عام 1922، والمجالس التمثيلية التي انشئت بعدها، كانت ترتكز كلها على قواعد طائفية. وكذلك مؤسسات الإدارة كان يغلب عليها اللون الطائفي الواحد المتعاون مع الانتداب. هذا فضلاً عن أساليب القهر التي اعتمدها في تغليب طائفة على أخرى، وفي حرمان بعضها من الوصول إلى مراكز أساسية في الدولة. وهكذا كانت أعمال المفوضين الفرنسيين تصبّ في إطار زعزعة اللحمة الطائفية وفي إثارة النعرات الدينية. ففي عام 1943، وقبل ان ينال لبنان استقلاله، فرض المندوب العام هللو قانوناً انتخابياً على اللبنانيين، جعل فيه أعضاء مجلس النواب 55 عضوا: 30 من المسيحيين و25 من المسلمين. وذلك استناداً للمادة 24 من الدستور التي اخضعت انتخاب النواب لاحكام قرار للمفوض السامي، واستناداً أيضاً للمادة 96 التي وزّعت مقاعد مجلس النواب على الطوائف الدينية، والتي وزعها هللو على هذه الطوائف بصورة غير عادلة.

كما مارس الانتداب هذه الطائفية في تشكيل الحكومات وتوزيع الحقائب الوزارية، وفي تعيين الموظفين الرسميين، وفقا للمادة 95 المؤقتة من الدستور اللبناني التي نصت على ما يلي:

«بصورة مؤقتة وعملاً بصك الانتداب، والتماساً للعدل والوفاق، تمثّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة دون ان يؤول ذلك إلى الاضرار بمصلحة الدولة». ولكن هذه الطائفية المؤقتة استمرت تفعل فعلها في اضعاف نظامنا السياسي، وفي تخريب مؤسساتنا واداراتنا العامة، حتى اضحت عبئاً يثقل علاقاتنا ويهدد مصيرنا ومستقبلنا، ويشعل الحروب في ما بيننا، كالحرب التي حدثت عام 1958 في أواخر عهد كميل شمعون والحروب التي وقعت ما بين عام 1975 و1989. 

عضو اللقاء الإسلامي الوحدوي