من أين يُبدأ بالكتابة عن شخصية متعددة الأبعاد بحجم اللواء سامي الخطيب، من أي صفحة من سجله الفكري والنضالي الطويل، احتضن خلالها قضايا وطنه لبنان بتجرّد ونزاهة فاستحق عن جدارة حب الأصدقاء واحترام المختلفين معه في الرأي والموقف، متعددة بقدر ما تتميّز شخصيته بتعدّد أبعادها: دماثته وخصاله، عطاؤه وإصراره، رؤيته الرحبة، وكلها جوانب قيّمة يفوقني في إدراكها معاصروه ومحبوه.
لن تتمكن هذه السطور القليلة من الإحاطة بالأوجه المختلفة، بل وحتى من الإشارة فقط الى العناوين المتعددة لجوانب سيرة حياة رائد فذّ بمستوى اللواء سامي الخطيب، يبقى في نظر كل من عرفه يجسّد ذلك السر الكبير لمقدرة البشر في التفاني والعطاء في سبيل القضايا الكبرى، فهو نموذج شامخ لإنسان وهب حياته لقضية المعرفة.
وفي الكلام عن اللواء سامي الخطيب تتجاذبك في آن معاً الذاتية والموضوعية. الذاتية نظراً للصداقة التي تربطنا، والموضوعية حتى لا تجرفك العاطفة الى الانحياز. ولكن سرعان ما يهون الأمر لأن الذاتية والموضوعية هنا لا تتنافران ولا تتناقضان لأن الرجل يحمل من الصفات والخصال الحميدة ما يريحك وحتى ان الكلمات تعجز عن أن تفيه حقه، ففيه يتطابق الذاتي والموضوعي ويتوازنان ويتكاملان ويترادفان.
هناك من الأشخاص الذين لا تتوانى في أن تكتب عنهم، أشخاص استطاعوا أن يملأوا الدنيا بانجازاتهم وعطاءاتهم التي تتجاوز حدود بلدهم.
ولقد عرفته، إذ لفت انتباهي بثقافته، وانجازاته ودوره القيادي من خلال العديد من المؤسسات التي تولّى رئاستها.
مرجعية بمعرفته، بمزاياه الإنسانية، بميثاق شرف أخلاقيته. لكن كل هذه الصفات لا تبعده عن بساطته، طيبة البساطة، ولا عن صراحته التي تسمّي الأشياء باسمائها وتخيف المرائين والمستزلمين.
لكن كل هذه الأمور وان عظمت شأناً، ليست كفيلة بصنع الأمجاد وحدها. يبني الأمجاد الرجال الذين يبنون ذواتهم بذواتهم، كل ما في سيرة اللواء سامي الخطيب يشهد على انه أحد هؤلاء العصاميين الذين ترقّوا بأنفسهم فارتقوا سلم المناصب والمناقب حتى أعلى درجاته. ولم يكن ترقية تمهيداً لاستعلاء أو استقواء أو انتهاز لغرض، بل سبيلا الى الترفع عن كل صغيرة، ودعوة للالتزام بالخدمة نهج حياة، وحافزاً الى المزيد من العطاء فالعطاء ثم العطاء.
لو أردنا في كل ما تتضمّنه سيرته من مكرمات وعِبَر، لأن هذه السيرة بحر واسع أنّى خضت غماره وألقيت الشباك حظيت بصيد وفير وانجازات مميّزة.
اللواء سامي الخطيب لا يتعب ولا يكل أو يمل ولا يعرف اليأس، وكلما تعثرت بفكرة أنعشها بتجديدها أو رفدها بفكرة أخرى، فإذا المبتعدون قد اقتربوا، وإذا اليائسون قد اخفوا يأسهم وقبلوا أن يكرروا معه التجربة.
وكم تمنيت لو كانت معرفتي به قبل ذلك بسنوات حتى تتعمّق الفائدة من معرفة إنسان بهذه الصفات. أدركت حينها أنني أمام عملاق وبحر من بحور العلم والمعرفة، ذي مخزون فكري ضخم مغلّف بتواضع إنساني جم وأخلاق عالية تزيد صاحبها شموخاً وتألّقاً.
أتراني وصلت إليك وأنا أخطو خطاك في هذه الأسطر المتواضعة، وهل أصبت من مسيرتك المشرقة قبسا؟ وأنت تنقل خطاك من أفق الى أفق، في منابر المعرفة ورحاب الأوسع من أجل بناء مستقبل ينهض بوطننا.
لقد ارتفعت وتساميت لانك لم تحن رأسك إلا للّه، وصغر الكثيرون لأنهم طأطأوا رؤوسهم لعباد الله.
لن تتمكن هذه السطور من الإحاطة بالأوجه المتعددة لجوانب سيرة حياة قائد بمستوى اللواء سامي الخطيب، فهو نموذج لإثبات وهب حياته لقضية وطنه وهو من الأشخاص الذين لا تتوانى من أن تكتب عنهم استطاعوا أن يملأ بإنجازاتهم وعطاءاتهم.
يرحل اللواء سامي الخطيب مُتخماً بمحبة الملخصين، مموّلاً بحسرة المحبين، مُشبعاً بغصّات المفتقدين، حاملا معه نعما تربعت في ثنايا فكره. رحل وترك طلابا طالما عبروا إليه بشوق الطامحين فتاقوا للقائه سويعات يقطفون منه جنى وثمارا قلّت غلال مواسمه، فكأن الزمن أبى إلا أن يترك الكبار يرحلون حاملين كؤوسهم المترعة ألما بعد أن شربوها أنخابا في حياتهم وفي وطن احتوته المظالم ومزّقته نوافر المواقف وحرقته أنانية المتهالكين.
رحل اللواء سامي الخطيب وقلبه لا يزال ينبض خوفاً من أقلام صبغ أحبارها رخيص الألوان وبيعت كلماتها في سوق النخاسة وحوّرت أسطرها عن الخطوط، رحل هجرانا لمرارة أمست حالا في حياة، فانكفا عن تفاهاتها العظام.
رحل اللواء الخطيب ودموعه فوق صفحات كتب أثقلها شجن تغيّر القناعات وتهالك المفاهيم وانحدار القيم، لكن الكلمة فيه أبت أن تودّعه إلا بما أحبها شامخة عالية علو همّته راقية رقي نفسه الشمّاء التي تنازلت عن مراميها ولا تهاوت الى مستنقع الابتذال.
رحل هذا الفارس وصهوته لن تجد من يعتليها لانه من الزمن الخطا ولأنه في عصر قصر عن أمثاله، فلك أيها الصديق في موتك كما في حياتك ألف تحية وسلام.
* الذكرى السنوية لوفاة اللواء سامي الخطيب